شرح كتاب النَّفَقات من مختصر مسلم – باب: في نَفَقة
عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-؛ إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَال: لَا، قَال: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ». الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/692) باب: (فضلُ النّفقة على العيال والمملوك، وإثم مَن ضيّعهم أو حبس نفقتهم عنهم)، وخيثمة هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، تابعي، من العلماء الفقهاء الفرسان، من أصحاب عبد الله بن مسعود، قال أبو نعيم الأصبهاني: أدرك خيثمة بن عبد الرحمن عدّة من أعلام الصحابة، وروى له الجماعة.
قَوْله: «إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَان» بِفَتْحِ الْقَاف وَإِسْكَان الْهَاء وَفَتْح الرَّاء، وهُوَ الخَازِن الْقَائِم بِحَوَائِج الْإِنْسَان، وهُوَ بِلِسَانِ الفُرْس، وهُوَ بِمَعْنَى الْوَكِيل.
قَوْله: «أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ»
الرق في اللغة: العبودية، وسُمي العبيد رقيقاً؛ لأنّهم يرقّون لمالكهم، ويذلّون ويَخضعون، والرّقيق هو المَمْلوك، وقيل: الرّق في اللغة: الضّعف، ومنه رقّة القلب. (لسان العرب) مادة (رق)، و«قُوتَهُمْ»: أي: طَعامهم ونَفَقتهم، فالقُوتُ هو الطَّعامُ الَّذي يُقيمُ قوَّةَ الجَسدِ.
فَقال: لا، أي لمْ أُعْطِهم قوتَهم، قَال: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ، أي: فأمَرَه عبْدُ اللهِ بنُ عَمرٍو -رَضيَ اللهُ عنهما- أنْ يَنطلِقَ مُسرعاً ويُعطيَهمُ الطَّعامَ، ثُمَّ بيَّنَ لَه السَّببَ، وهوَ قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كفَى بالمَرءِ إثماً»، أي: يَكْفي المرءَ إثماً وذَنباً، «أنْ يَحبِسَ» أنْ يمنع، «عمَّن يَملِكُ قُوتَه»، يَعني: عمَّن تَلزمُه نَفقتُه مِن أهْلِه وعِيالِه وعَبيدِه؛ وذلك لأنّه حبسَ عنهم ما يجبُ عليه بذله لهم؛ فاستحقّ الإثم؛ لأنّه ترك حقًّا وواجباً عليه.
والمرادُ: أنَّه لو لم يكُنْ للشَّخصِ ذنبٌ غيرُ مَنعِه مملوكَه قوتَه، لَكَفاهُ ذلك إثمًا يُوجِبُ له دخولَ النَّارِ، وفي رواية أبي داود: «كفَى بالمَرءِ إثماً، أنْ يُضيِّعَ مَن يقُوتُ».
الأهل والرّقيق نفقتهم أعْظم مِنْ غيرهم
والسبب في أنّ الأهل والرّقيق نفقتهم أعْظم مِنْ غيرهم، وهو أكثر أجْراً أيضاً، مِنْ سائر النّفقات المذكورة في الأحاديث؛ لأنّ النّفقة على غيرهم فيها أجْر النّفقة فقط، وعلى الأهلِ والأقارب والرّقيق نَفقةٌ وصِلة، وهذه الصّلة إمّا أنْ تكونَ واجبة، كالنفقة على الزّوجة، وعلى مَنْ يملك قوته ممّن هو تحتَ يده، مِنْ رقيقٍ وخادم ونحوه، وإمّا أنْ تكون مُسْتحبة كسَائر الأقارب ممّن لا تجب عليه نفقتهم، ويَشهد لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّدقة على المِسْكين صَدقة، وهي على ذي الرّحم ثِنْتان: صدقةٌ وصلة». رواه الترمذي (658)، والنسائي (2582)، وصححه الألباني.
وعن ثوبان بن بُجْدُدٍ مَوْلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضلُ دينار يُنفِقُه الرجلُ، دينارٌ يُنفِقُه على عياله، ودينار يُنفِقُه على دابَّتِه في سبيل الله، ودينار يُنفِقُه على أصحابه في سبيل الله». رواه مسلم، وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قلتُ: يا رسول الله، هل لي أجرٌ في بَنِي أبي سلمة، أنْ أُنفِق عليهم، ولستُ بتاركتِهم هكذا وهكذا؛ إنّما هم بَنيَّ؟ فقال: «نعم، لك أجرُ ما أنفَقتِ عليهم». متفق عليه.
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه في حديثه الطويل-: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «وإنَّك لنْ تُنفِقَ نفقةً تَبتغي بها وجْهَ الله، إلا أُجِرتَ بها، حتى ما تَجْعل فِي فِيِّ امرأتِك». متفق عليه.
وعن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أنفَقَ الرجُلُ على أهله نفقةً يَحتسِبُها، فهي له صَدَقة». متفق عليه.
وقال النووي: «لأنّ مِنْهم مَنْ تجبُ نفقته بالقَرَابة، ومنْهم مَنْ تكونُ مندوبةً وتكون صدقةً وصلة، ومنهم من تكون واجبة بملك النكاح، أو ملك اليمين، وهذا كله فاضلٌ مَحْثُوثٌ عليه، وهو أفضل مِنْ صَدقة التطوع». شرح مسلم (7/ 83).
نّفقة أفضلُ مِنَ الصّدقة
وقال ابن بطّال -رحمه الله-: «ينفق على نفسِه وأهله، ومَنْ تَلْزمه النَّفقة عليه، غير مُقتّرٍ عمّا يجبُ لهم، ولا مُسْرف في ذلك، كما قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67)، وهذه النّفقة أفضلُ مِنَ الصّدقة، ومنْ جَميع النفقات».
النفقة على البعيد المُحْتاج
وإذا أعَطى أهله ومَنْ تحت يده نفقتهم، ولمْ يكنْ في أقاربه مُحتاج، فالنفقة على البعيد المُحْتاج، أوْلى مِنَ القَريب غير المحتاج، أمّا إذا تساوت الحَاجة، فالأهلُ والقَريب مُقدَّمٌ على غيره، وكذا إذا تساوى القَرِيب والبعيد في الحاجة، فالأهلُ والقريب أولى لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دينارٌ أنفَقتَه في سبيل الله، ودينار أنفَقتَه في رقَبة، ودينار تَصدَّقتَ به على مِسكين، ودينارٌ أنفَقتَه على أهلِك، أعظَمُها أجراً الذي أنفَقتَه على أهلِك». رواه مسلم.
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-: «قوله: «أَعْظَمُهَا أَجْراً الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» هذا مَحْمول على ما إذا استوت الحال في الأهل، والأجنبي، فلو كان أحدُهما أحْوج أو أوكد، لكان المُنْفَقُ في الأوْكد أعظم أجْراً، فإذا استوت المَرَاتب، فترتيب الأعظم كما وقع في الحديث». «المفهم» (3/ 40).
ما يُسْتفاد مِنَ الحديث
- في الحديث دلالة على فضْل النّفقة على الأهل والأولاد والرقيق، ومَنْ تحت يد الرجل، وأنّها أعظم أجراً من أيّ نفقة.
- وفيه: الأمرُ بالإنْفاقِ على مَن تلزَمُ رِعايتُه.
- اعتَنَاء الشَّريعة بحُقوقِ جَميعِ النَّاسِ، حتَّى العبيدِ، وحتَّى الحَيَواناتِ والبَهائمِ، حيثُ أوجَبَتْ على مُلَّاكِها الإنْفاقَ عليهم، والقِيامَ بحُقوقِهم، فما أكمَلَ الشَّريعةَ، وأشْمَلَها، وأقْوَمَها، وأعْدَلَها، وأوْفَاها!.
- التحذير من إثم حَبس الحُقُوق عن أهلها.
لاتوجد تعليقات