شرح كتاب النَّفَقات من مختصر مسلم – باب: للمَرأةِ
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، واللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللَّهُ؛ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ومَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مُمْسِكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُنْفِقِي عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ»، الحديث رواه مسلم في الأقضية (3/1338) باب: قضيّة هند، ورواه البخاري في المظالم (2460) باب قصاص المظلوم إذا وجدَ مالَ ظالمه، ورواه في الأحكام (7161) باب: مَنْ رأى القاضي يَحكم بعِلْمه في أمر الناس، إذا لم يَخف الظُّنونَ والتُّهمة.
«هند» هي بنت عتبة العبشمية القُرشية الكنانية، زوجة أبي سفيان بن حَرب، وأمّ الخليفة مُعاوية -رضي الله عنهم-، أبوها عُتبة بن ربيعة سيدٌ مِنْ سادات قريش وبني كنانة، عُرف بحِكْمته وسَداد رأيه. ظلّت زمناً في الكفْر ومُحاربة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤلّبةً رجال قريش عليه، حتى ألقى اللهُ في قلبها نُور الإيمان بعد فتح مكة، وأسْلمت بعد إسْلام زوجها أبي سفيان.
أحبّ البيوتِ إلى نفسي
قالَتْ: «جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، واللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ، أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللَّهُ؛ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ...»، قال القاضي عياض: أرادت بقولها أهل خباء، نفسه -صلى الله عليه وسلم- فكنَّتْ عنه بأهلِ الخِباء إجْلالاً له. قال: ويحتمل أنْ تُريد بأهلِ الخباء: أهل بيته، والخِبَاء يُعبِّر عن مَسْكن الرّجل وداره، وأصلُ الخباء: خيمة من وَبَر أو صوف، ثمّ أُطْلقتْ على البيت كيفما كان.
فتقول له هند: يا رسولَ الله، والله لقد مَضى عليّ زمانٌ كان بيتُك أبغض البيوت إلى نفْسِي، وكنتُ أتمنى أنْ يُذل الله هذا البيت ذلاً فوق ذل البَشر، وقد أصبحت اليوم أراك وأرى بيتك أحبّ البيوتِ إلى نفسي، ولا أتمنّى لأحدٍ أنْ يعزه الله مثلما أتمنّى لك ولأهل بيتك.
فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وأَيْضاً، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» أيضًا، يقال: آضَ يَئِيضُ أيضاً إذا رَجَع، والمعنى: ورجُوعاً منّي على قولك. أي: وأيضاً سَيَزيدك الله حبَّاً لي، إذا تمكّن الإيمانُ في قلبك.
قال ابن التّين: فيه تَصديقٌ لها فيما ذكرته. قال الحافظ ابن حجر: كأنّ ابن التين رأى أنّ المعنى: وأنا أيضاً بالنسبة إليك؛ مثل ذلك على معنى، وأنا كذلك لمْ يكنْ على ظَهر الأرض، أحبّ إليّ مِنْ أنْ يذلها الله منك.
إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ مُمْسك
وقد اسْتراحتْ هند بهذا اللّقاء، وأنستْ بهذا الجواب، فعرَضتْ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً مِنْ خاصّة أمْرها، وسرا مِنْ أسْرار بيتها، وما يقع بينها وبين زوجها، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ مُمْسك» أي: شحيح بَخيل، وفي رواية: «إنّ أبا سفيان رجلٌ شحيح» والشح البُخل مع حرص، والشحّ أعمُّ مِنَ البُخل؛ لأنَّ البُخل يختصّ بمنع المال، وقيل: الشح لازم كالطبع والبُخل غير لازم.
أي: هو يُقتّر في النفقة عليّ وعلى أولاده، فلا يُعْطينا ما يكفينا، فهلْ أسْتطيع أنْ أكْمِل نقصَ نفقتنا منْ ماله الذي تحت يدي، دون علمه، ودون أنْ يشعر؟ ولم تبين إنْ كانَ بنُوها صغاراً أو كبارا.
قال القُرطبي: لم ترد هند وصف أبي سفيان بالشح في جميع أحواله، وإنّما وصفت حالها معه، وأنّه كان يُقتّر عليها وعلى أولادها، وهذا لا يستلزم البُخل مطلقاً، فإنّ كثيراً مِنَ الرُّؤساء يفعل ذلك مع أهله، ويُؤثر الأجانب اسْتئلافا لهم، وقال الخطابي: إنّ أبا سفيان كان رئيسَ قومه، ويَبْعد أنْ يَمنع زوجته وأولاده النّفقة، فكأنّه كان يُعطيها قدر كفايتها وولدها.
وفي الرواية الثانية: «رجلٌ مُمْسك»، وفي الرواية الثالثة: «رجلٌ مسّيك» بكسر الميم وتشديد السين، على المبالغة مثل: شرّيب وسكّير، وضبط بفتح الميم وكسر السين مخفّفاً على وزن شحيح. قال النووي: الأول: أشْهر في الرواية، والثاني: أصح من حيث اللغة. فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُنْفِقَ على عِيَالِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟
قولها: «فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ، أَنْ أُنْفِقَ على عِيَالِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟» وفي الرواية الأخرى لهما: «فهل عليّ حرجٌ مِنْ أنْ أطعم من الذي له عيالنا؟» وفي رواية البخاري: «إلا ما أخذتُ مِنْه وهو لا يَعْلم».
فقال لها -صلى الله عليه وسلم-: «لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُنْفِقِي عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ» أي: لا إثمَ عليك، إذا أخذتِ مِنْ ماله بغير عِلْمه، ما هو حق مُسْتَحق لك ولبَنيك، بشَرط ألا تزيدي عمّا تَسْتحقّين، وعمّا هو مَعْروف عُرفاً وعادةً أنّه يكفيك، ويناسب معيشة أمثالك.
فوائد الحديث
في الحديث فوائد وأحْكام عظيمة نذكر منها ما يلي:
1- فيه دلالة على وُفُور عَقل هند -رضي الله عنها-، وحسن تأدّبها في المُخاطبة.
2- وأنَّ صاحبَ الحاجة والاسْتفتاء يُسْتحبّ له أنْ يُقدّم بين يدي حاجته ما يزيل غَضب مَنْ يُخاطبه.
3- وأنّ المُعتذر يُستحبّ له أنْ يُقدّم ما يُؤكّد صِدْقه عند مَنْ يعتذر إليه؛ لأنّ هنداَ قدّمت الاعتراف بذكر ما كانت عليه من البُغض، لتؤكّد صِدْقها فيما ادّعته مِنَ الحبّ.
4- وجواز سَماع كلام الأجنبية عند الإفتاء والحُكم، وكذا ما في مَعناهما، وأمّا عند مَنْ يقول: إنّ صَوتها عَورة، فيقول: جاز هنا للضّرورة.
5- وفيه وجُوبُ نَفَقة الزوجة.
6- وأنّها مُقدّرة بالكفاية، وهو قولُ أكثر العلماء، وليس بالأمْداد أو غيرها، قال الحافظ ابن حجر: والرّاجح من حيث الدليل: أنَّ الواجب الكفاية، ولا سيما وقد نقل بعضُ الأئمة الإجماع الفعلي في زمن الصّحابة والتابعين على ذلك، ولا يُحفظ عن أحدٍ منْهم خلافه.
7- وفيه جواز ذِكْر الإنْسَان بما يَكره، إذا كان على وجْه الاسْتفتاء والشّكوى ونحو ذلك، وهو أحدُ المَواضع التي تُباح فيها الغيبة.
جواز خُروج المرأة لحاجتها
8- وجواز خُروج المرأة لحاجتها، إذا أذِن زوجُها لها في ذلك، أو عَلِمت رضاه به، وهذا مبنيٌ على أنّ أبا سفيان عَلم وسمح، وفيه نظر، والأولى أنْ يقال: فيه جواز خُروج الزوجة للفتوى والقضاء، ولو لمْ يأذن الزوج.
9- وأّن للمرأة مَدْخلاً في كفالة أولادها، والإنْفاق عليهم منْ مَال أبيهم، قال النووي: قال أصْحابنا: إذا امتنع الأبُ مِنَ الإنفاق على الوَلد الصّغير، أو كان غائباً، أذِنَ القاضي لأمّه في الأخذ مِنْ مالِ الأب، أو الاسْتقراض عليه، والإنفاق على الصغير بشرط أهليتها.
10- واسْتدلَّ به على جَواز إطلاق الفتوى مع إرادة تَعليقها وتقييدها، فإنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطلقَ الإباحة، لكنّه أراد: إنْ صحّ ما ذكرتِ يا هند، فخذي ما يكفيك. كذا قال القرطبي، وقال غيره: يحتمل أنْ يكون -صلى الله عليه وسلم- عَلِمَ صِدْقها فيما ذكرتْ، فاسْتغنى عن التقييد ولمْ يقصده.
12- وفيه جواز اسْتماع كلام أحدِ الخَصْمين في غيبة الآخر، ثمّ النّظر بعد ذلك.
13- واستدلَّ به بعضُهم على اعتبار حال الزوجة حين تقدير النّفقة، وهو قول الحنفية، والفتوى عند الحنفية على اعتبار حال الزّوجين معاً، والشافعية على اعتبار حالِ الزوج، تمسّكاً بقوله -تعالى-: {ليُنفقْ ذو سَعةٍ مِنْ سَعَتِه} (الطلاق: 7).
وجُوبُ نفقة الأولاد وإنْ كانوا كباراً
14- وفيه وجُوبُ نفقة الأولاد وإنْ كانوا كباراً، لقولها: بنيّ على الإطْلاق، ورُدّ بأنّها واقعة عين لا تَعمّ، قال ابن المُنذر: اختلف في نفقة مَنْ بلغ مِنَ الأولاد ولا مالَ له ولا كسْب، فأوجبت طائفة النَّفقة لجميع الأولاد، أطْفالاً كانوا أو بالغين، إناثاً وذُكْراناً، إذا لم يكنْ أموال يستغنون بها. وذهب الجمهور: إلى أنّ الواجب أنْ يُنفقَ عليهم حتى يَبْلغ الذكر، أو تتزوّج الأنثى، ثمّ َلا نفقةَ على الأب، إلا إذا كانوا زَمْنى، فإنْ كانت لهم أمْوال، فلا وجوبَ على الأب، وألْحق الشافعي: ولد الولد وإنْ سفل، بالولد في ذلك.
مَنْ له عند غيره حقٌّ وهو عاجزٌ عن اسْتيفائه
15- واسْتُدل به على أنَّ مَنْ له عند غيره حقٌّ وهو عاجزٌ عن اسْتيفائه، جازَ له أنْ يأخذَ مِنْ ماله قدْرَ حقّه بغير إذْنه، وهو قول الشافعي وجماعة، وتُسمّى هذه المَسْألة: «مَسْألة الظَّفَر». والراجح عندهم: ألا يأخذ غير جِنْس حقّه، إلا إذا تعذّر جنس حقّه. وعن أبي حنيفة المنْع، وعنه: يأخذ جنس حقّه، ولا يأخذ منْ غير جِنْس حقه، إلا أحد النَّقْدين بدل الآخر. وعن مالك ثلاث روايات كهذه الآراء. وعن أحمد المنع مُطْلقاً، والحديث حُجّة للشافعي، قال الخطّابي: يُؤخذ من حديث «هند» جواز أخذ الجِنس وغير الجنس؛ لأنّ مَنْزلَ الشّحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النّفقة والكسوة، وسائر المَرافق اللازمة، وقد أطلق لها الإذن في أخذ الكفاية من ماله، وعقب عليه الحافظ ابن حجر بما يحتاج إلى تعقيب.
تحكيمُ العُرف والعادة
16- وفي الحديث: تحكيمُ العُرف والعادة، في الأمور التي ليس فيها تحديدٌ شرعي، قال القرطبي: فيه اعتبار العُرف في الشّرعيات، خلافاً لمن أنْكر ذلك لفظاً وعمل به معنى، كالشافعية. وردَّ عليه الحافظ ابن حجر فقال: إنّ الشافعية إنَّما أنْكروا العَمل بالعُرف إذا عارضَه النَّصُّ الشّرعي، أو لمْ يُرْشد النصُّ الشّرعي إلى العُرْف.
جَواز القَضاء على الغائب
من فوائد الحديث ما استدلّ به بعضُ الشافعية على جَواز القَضاء على الغائب، وفي المَسْألة خلافٌ للعلماء، قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين: لا يُقْضى عليه بشَيء، وقال الشافعي والجمهور: يُقْضى عليه في حُقُوق الآدميين، ولا يُقْضى عليه في حُدود الله -تعالى-، والظاهر أنّه لا يصحّ الاستدلال بهذا الحديث لهذه المَسألة؛ لأنّ هذه القَضية كانت بمكة بعد إسلام هند وأبي سفيان، وكان أبو سفيان حاضراً بها، وشرط القضاء على الغائب: أنْ يكون غائباً عن البلد، أو مُسْتَتراً لا يُقْدر عليه، أو متعذّرا لا يقدر عليه، ولمْ يكنْ هذا الشّرط في أبي سفيان موجوداً، فلم يكنْ قضاءً على الغائب؛ بل هو إفتاء، قال الحافظ ابن حجر: وفي بعض الروايات الضّعيفة: أنّ أبا سفيان كان معها حاضِراً. وذهب الأكثرون إلى أنّ الموضوع فتوى لا قَضاء، فلا يصحّ الاستدلال به على القضاء على الغائب، ورجّح القائلون بأنّه قضاء بالتّعبير بصيغة الأمر، حيثُ قال: لها خُذِي، ولو كان فُتيا لقال مثلا: لا حَرَج عليك إذا أخَذت، وبأنّ الأغلبَ في تصرّفاته -صلى الله عليه وسلم- إنّما هو الحُكم، ورجّح القائلون بأنّه فتوى؛ بوقُوع الاسْتفهام مِنْ هند في القضية: هل على جناح؟ ولأنه فوّض تقدير الاسْتحقاق إليها، ولو كان قضاءً لمْ يُفوّضه إلى المُدّعي، ولأنّه لمْ يستحلفها على ما ادّعته، ولا طَلَب منْها البيّنة.
لاتوجد تعليقات