شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: صَدَاقُ النبي – صلى الله عليه وسلم – لِأَزْوَاجِهِ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا، قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَال: قُلْتُ لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلْكَ خَمْسُ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَزْوَاجِهِ، الحديث رواه مسلم في النكاح (2/1040) وبوب عليه النووي: باب: الصَّداق وجواز كونه تعليم قرآن، وخاتم حديد، وغير ذلك من قليلٍ وكثير، واسْتحباب كونه خَمسمائة درهم لمَن لا يُجحف به.
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف القرشي الزهري، الحافظ، تابعي، أحدُ الأعْلام بالمدينة، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ولد سنة بضع وعشرين، وأرْضعته أم كلثوم، فعائشة خالته من الرضاعة، قال ابن سعد في الطبقة الثانية من المدنيين: كان ثقة فقيهاً، كثير الحديث. وقال أبو زرعة: ثقة، إمام، قال ابن سعد: توفي أبو سلمة بالمدينة سنة أربع وتسعين، في خلافة الوليد، وهو ابنُ اثنتين وسبعين سنة. روى له الستة.
كمْ كان صَداقُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم لزوجاته؟
وفي هذا الحَديثِ: يَسألُ أَبو سَلمةَ أمَّ المؤمنين عائشةَ رضِي اللهُ عنها: كمْ كان صَداقُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم ؟» أي: كم كان مَهْر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم ؟ وما مقدار صداقه لهنَّ؟
قالت: «كان صَداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه ثنتي عشرة أوقيَّة ونشا، قالت: أتدري ما النَّش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم». أما الأوقية: فبضم الهمزة وبتشديد الياء، فهي أربعون دِرهماً، وهي أوقية الحجاز، وأمَّا «النش» فبنون مفتوحة ثم شين معجمة مشددة. والمراد من الفضة وهي الدراهم.
قال النووي -رحمه الله-: واستدلَّ أصحابُنا بهذا الحديث على أنَّه يُسْتحب كون الصَّداق: خمسمائة درهم، والمراد في حقِّ منْ يحتمل ذلك. فإن قيل: فصداق أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أرْبعة آلاف درهم، وأربعمائة دينار؟ فالجواب: أنَّ هذا القدر تبرع به النَّجاشي مِنْ ماله، إكراماً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أدَّاه، أو عقد به. والله أعلم.(شرح مسلم) بتصرف.
وقال: «والمستحبُّ ألا يزيدَ على خمسمائة درهم؛ لمَا روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه... فذكر الحديث». (المجموع) (16/ 322).
وقال ابن خلدون: فاعلم أنَّ الإجماع منعقد منذ صدر الإسْلام وعهد الصحابة والتابعين: أنَّ الدرهم الشَّرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، والأوقيَّة منه: أربعين درهماً، وهو على هذا سبعة أعشار الدينار... وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع. (مقدمة ابن خلدون) (ص: 263).
فوزن الدرهم بالجرامات هو: 2.975 جراماً، فيكون مهر أزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم -: 500×2.975 هو: 1487.5 جراماً من الفضة؛ وحيث إن سعر جرام الفضة الخالص بدون مصنعية حالياً حوالي (200) فلس، فيكون المهر: (295) دينارا كويتيا تقريباً، ولكن منَ المعلوم أنَّ الفضَّة كان لها في تلك الأزْمنة شأن، وقوة في الشراء، وكان الدِّرهم مِنَ الفضة يُساوي: عُشر الدَّينار من الذهب.
ثم إنَّ المَقصودُ في هَذا هو الغالبِ في صَداقِ أَزواجِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإلَّا فقدْ كان صَداقُ صَفيَّةَ -رضِي اللهُ عنها- عِتقَها، وكذلكَ كان صَداقُ جَويريَةَ كذلك عِتقَها.
فوائد الحديث
وفي الحديث فوائد منها:
(1) فيه مشروعية الصَّداق في النكاح، وأنَّه لابدَّ منه، سواء سُمِّي في العقد أم لم يَسمّ، فإنْ سُمّي فهو على ما اتَّفق عليه الزوجان، وإنْ لم يُسم فللزوجة مهر مثيلاتها مِنَ النساء.
(2) الصّداق يُعدُّ عطيةً وهدية، يُكرِمُ بها الرجل زوجته عند دخوله عليها، ومقابلته لها، جَبراً لخاطرها، وإشعارًا بقدْرها، وليس هو مجرَّد عوض.
(3) استحباب تخفيف المهور اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فالسُّنة النبوية: التَّخفيف في المُهور، والتَّيسير فيها؛ لتسهيل الزواج، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ النِّكاح أيْسَره». رواه ابن حبان، وصححه الألباني، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ الصَّداق أيْسَره». رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني.
(4) قد كان مهرُ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - (500) درهم مِنَ الفضة، وكان مهر بناته (400) درهم، وقد استحبَّ الفقهاء ألا يُزاد في المَهر على ذلك.
(5) وفيه: حرصُ السَّلف على طلبِ العلم والتَّعلم، وذلك ظاهر في سؤال أبي سلمة لعائشة رضي الله عنها.
(6) جواز مخاطبة الرجل المرأة إذا كان لمصلحةٍ أو حاجة؛ لأنَّ أبا سلمة بن عبد الرحمن خاطب عائشة وسألها.
(7) أنَّه ينبغي للمُفتي إذا تكلم مع المستفتي بشيء يظنُّه جاهلاً به، أنْ يُبينه له بما يزول به جهله به.
(8) أنَّ مِنْ طرائق التعليم: سُؤال المتعلّم عن الشيء وإنْ كان لا يَعلمه، تنشيطاً له، وتحفيزاً لهمَّته، لأنَّها سألته: أتدري ما النش؟.
لاتوجد تعليقات