شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: تَحريمُ الجَمْع بينَ المَرْأة وعمَّتها أو خالتها
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُنَّ: الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا. الحديث رواه مسلم في النكاح (2/1028) باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، ورواه البخاري في النكاح (9/160) باب: لا تنكح المرأة على عمتها.
قوله: «لا يُجمع» قال الحافظ: بالرفع على الخَبر عن المَشْروعية، وهو يتضمن النَّهي، قال: فإنْ جَمعَ بينهما بعقدٍ بطَلا، أو مرتبًا، بطلَ الثاني؛ انتهى، يَرْوي أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الجَمْعِ بيْن المرأةِ وعَمَّتِها، والمرأةِ وخالتِها، في نكاحٍ واحدٍ، فلو نكَحَهما معًا بطل نكاحُهما؛ إذْ ليس تخصيصُ إحداهما بالبُطلانِ أَولى من الأخرى، فإن نكَحَهما مرتَّبًا، بطل نكاحُ الثانيةِ؛ لأنَّ الجَمعَ بها حصل.
الحكمة في هذا النهي
والحكمة في هذا النهي: ما يقع بسبب المُضارَّة مِنَ التَّباغض والتنافر، فيفضي ذلك إلى قطيعة الرحم، وقال الترمذي بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامة أهل العلم: لا نعلم بينهم اختلافًا أنَّه لا يحلُّ للرجل أنْ يجمعَ بين المَرأة وعمَّتها، أو خالتها، ولا أنْ تُنْكح المرأة على عمَّتها أو خالتها.
قال النووي: احتج الجمهور بهذه الأحاديث، وخَصّوا بها عموم القُرآن في قوله -تعالى-: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24)، وقد ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص عُموم القرآن؛ بخبرِ الآحاد. انتهى.
وقال ابن المنذر: لستُ أعلمُ في منع ذلك اختلافاً اليوم، وإنَّما قال بالجواز فِرقةٌ من الخوارج، وإذا ثبتَ الحُكْم بالسنّة، واتفقَ أهل العلم على القول به لم يَضرّه خلاف مَن خالفه.
حُكْم مَنْ لمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة في الاختيارات: ولو قيل: إنَّ مَنْ لمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ، فهو في مِلْكِ المُحَرَّمَاتِ، بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، كَما قُلْنَا على إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْوَاجِبَاتِ، فَهُو فِيها كَأَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، فلَا يَجِبُ عليهِمْ الْقَضَاءُ، كذلِكَ أُولَئِكَ تَكُونُ عُقُودُهُم وفِعْلُهُم بِمَنْزِلَةِ عُقُودِ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، فإِذَا اعْتَقَدُوا أنّ النكاحَ بلا وليّ ولا شهود، وفي العِدَّةِ صَحِيحٌ، كانَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الجاهِلِيَّةِ، ويُحْمَلُ ما نُقِلَ عن الصَّحَابَةِ علَى أَنَّ المُعَانِدَ لَمْ يُعْذَرْ، لِتَرْكِهِ تَعَلُّمَهُ العِلْمَ مَعَ تَقْصِيرِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ البَوَادِي، والحَدِيثِ العَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، ومَنْ قَلَّدَ فَقِيها، فَيَتَوَارَثُونَ بِهذِهِ الْأَنْكِحَةِ.
قال: وإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ مُعْتَدَّةٌ، فإنْ كانَ لَمْ يَدْخُلْ بِها، مُنِعَ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وإِنْ كَان دَخَلَ بِها لَمْ يُمْنَعْ الْوَطْءُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ وَطْئِهِ، وعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ. «الاختيارات الفقهية» (1/545).
قال ابن عبد البر: أجمعَ العلماء على أنَّ الزوجين إذا أسلما معًا، في حالٍ واحدة، أنَّ لهما المقام على نِكاحهما، ما لم يكنْ بينهما نَسبٌ ولا رَضاع.
وأخبر محمَّدُ بنُ شِهابٍ الزُّهريُّ (أحَدُ رواةِ الحديثِ): أنَّ عُروةَ بنَ الزُّبَيرِ حَدَّثه عن عائشةَ -رضي الله عنها-: أنَّ الرَّضَاعةَ تُحرِّمُ ما يُحرِّمُه النَّسَبُ، فكما أنَّ المرأةَ لا يُجمَعُ بيْنها وبيْن خالتِها مِنَ النَّسبِ، فكذلك لا يُجمَعُ بيْنها وبيْن خالتِها مِنَ الرَّضاعة، وهي أنْ تكونَ أُختَ أُمِّها الَّتي أرضَعْتَها، وكذلك العمَّةُ.
وأيضًا: خالةُ الأبِ مِنَ الرَّضاعِ، كخالةِ الأبِ مِنَ النَّسبِ، وكذلكَ في سائرِ المُحرَّماتِ بالرَّضاعِ.
وقال الشافعي: وقد يَذْكر اللهُ -عزّ وجل- الشيء في كتابه؛ فيُحرّمه ويُحرم على لسان نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - غيره، مثلَ قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} ليس فيه إباحة أكثر مِنْ أربع، لأنَّه انتهى بتحليل النكاح إلى أربع. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان بن سلمة- وأسْلم وعنده عَشرُ نسوة-:»أمْسِك أرْبعاً، وفارقْ سَائرهن». فأبان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ انتهاء الله بتحليله إلى أربع حظرٌ لمَا وراء أربع، وإنْ لم يكن ذلك نصَّاً في القرآن.
قال: والقول في الجمع بين المرأة وعمتها وعماتها، مِنْ قِبَل آبائها، وخالتها وخالاتها من قبل أمهاتها، وإنْ بَعُدن، كالقول في الأخوات، سواءً إنْ نَكح واحدة ثم نكح أخرى بعدها؛ ثبتَ نكاح الأولى وسقطَ نكاح الآخرة، وإنْ نَكحهما في عقدة معاً؛ انفسخ نكاحهما، وإنْ نَكَح العمَّة قبل بنتِ الأخ، أو ابنة الأخ قبلَ العمَّة؛ فسواء، هو جامعٌ بينهما، فيسقطُ نكاح الآخرة، ويَثْبت نكاح الأولى، وكذلك الخالة. وسواء دخل بالأولى منهما دون الآخرة، أو بالآخرة دون الأولى، أو لم يَدْخل.
وهكذا يَحرم الجَمعُ بينهما بالوَطء بمُلك اليمين والرَّضاع، وملك اليمين في الوطء والنكاح سواء..
قال: وما نَهى اللهُ عن الجَمع بينه مِنَ الأخوات، وما نَهى عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منَ الجَمع بين العمة والخالة؛ ففيه دلالة على أنَّ كل واحدة منهما تحلُّ بعد الأخرى، فلا بأس أنْ يَنكح الأخت، فإذا ماتتْ، أو طلقها طلاقاً يَملك فيه الرَّجعة وانقضت عدتها، أو طلاقا لا يَملك فيه الرجعة، وهي في عدّتها، أنْ يَنكح الأخرى، وهكذا العمَّة والخالة، وكلُّ ما نَهي عن الجمع بينه. «الأم» كتاب النكاح.
فوائد الحديث
في الحديث فوائد أهمها أنَّ الشَّرعُ الكريمُ بيَّن أحكامَ الأسْرةِ في الزَّواجِ وغيرها، وبَيَّن ما يحل فيه وما يَحرُمُ، وما يترتَّبُ على ذلك كُلِّه، من الحقوقِ والواجباتِ على كُلِّ الأطرافِ، واستقَرَّ الأمرُ بما وضَّحه القرآنُ الكريم، وبَيَّنَتْه السُّنَّةُ النبويَّةُ، ولا ينبغي لأحَدٍ أن يُغَيِّرَ فيها شيئاً باجتهادِه، مع وجودِ النُّصوصِ القاطِعةِ الواضِحةِ.
لاتوجد تعليقات