شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: لا تَقَدَّمُو
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ؛ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ؛ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْماً؛ فَلْيَصُمْهُ»، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/762) وبوب عليه النووي بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الصوم (1914) باب: لا يتقدّمُ رمضان بصوم يومٍ ولا يومين.
قولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقدَّموا رَمَضان»، أي: لا تَسبِقوا شَهرَ رمضانَ، «بصوم يومٍ، ولا يومينِ»، أي: لا تَصُوموا آخِرَ يومٍ أو آخِرَ يَومينِ من شَعبانَ، لا على جِهةِ التعظيمِ للشهرِ، ولا على جِهةِ الاحتِياطِ خوفًا أن يكونَ مِن رمضانَ، وقوله: «إلَّا أنْ يُوافِقَ ذلك صَومًا كان يصومُه أحدُكم» أي: أنَّه ليس نَهياً عامّاً، بل يُسْتُثْنى منه مَنْ كان له عادةٌ في الصيام، كأنْ يُوافِقَ الاثنينِ أو الخميسَ الَّذي يكونُ من عادته صِيامُه.
صيام يوم الشك
فقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ» فِيهِ التَّصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ اِسْتِقْبَال رَمَضَان بِصَوْمِ يَوْم ويَوْمَيْنِ، لِمَنْ لَمْ تكن له عَادَة فيَصِلهُ بِمَا قَبْله، فَإِنْ لَمْ يكن صَادَفَ له عَادَة فَهُوَ حَرَام، وقد حمل بعض العلماء اليومَ واليومين المَنْهيَّ عن صيامهما في الحديث، على صيام يوم الشك، أي: يوم الثلاثين من شعبان، حيثُ يُشك فيه: هل هو المتمّم لشعبان، أو الأول من رمضان؟
وقد قال عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رضي الله عنه - قَال: «مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -». رواه الترمذي (686) والنسائي (2188)، قال الحافظ في فتح الباري: «اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيم صَوْم يَوْمِ الشَّكِّ، لأَنَّ الصَّحَابِيَّ لا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ». اهـ، ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا لم يُرَ الهلال بسبب الغيم أو نحوه، وسُمِّي يوم شك؛ لأنّه يحتمل أنْ يكون يوم الثلاثين منْ شعبان، ويحتمل أنْ يكون اليوم الأول منْ رمضان، فيَحْرم صيامه، إلا لمَن وافق عادةَ صيامه.
حُكم صيام يوم الشك
قال النووي -رحمه الله- في المجموع (6/400) عن حُكم صيام يوم الشك: «وَأَمَّا إذَا صَامَهُ تَطَوُّعًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ بِأَنْ كَانَ عَادَتُهُ صَوْمَ الدَّهْرِ، أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ، أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَصَادَفَهُ جَازَ صَوْمُهُ بِلا خِلافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ، إِلا رَجُل كَانَ يَصُوم صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ»، وإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ فَصَوْمُهُ حَرَامٌ اهـ بتصرف.
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لحديث: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ..»: «واختلف العلماء رحمهم الله في هذا النهي هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة؟ والصحيح أنّه نهيُ تحريم، ولاسيما اليوم الذي يُشكّ فيه» اهـ. «شرح رياض الصالحين» (3/394).
وللحديث مَحملٌ آخر
قال في (حاشية السندي) في شرح هذا الحديث: وحَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ على أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةِ رَمَضانَ، أَوْ لِتَكْثِيرِ عَدَدِ صِيَامِهِ، أَوْ لِزِيَادَةِ احْتِيَاطِهِ بِأَمْرِ رَمَضَانَ، وعلَى صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، إِذْ لَا يَقَعُ الشَّكُّ عَادَةً فِي يَوْمَيْنِ... اهــ ، وإنما ذكر اليومين بعد قوله: «بيوم» لأنّ الشك قد يحصل في اليومين أيضا، أي التاسع والعشرين مع الثلاثين، وهذا الشك ليس لأنّ الشّهر قد يكون ثمانيةً وعشرين، وإنّما يحصل الشك فيه بسبب وجُود غيمٍ ونحوه في شهرين متتابعين أو ثلاثة، فتتسع دائرة الشك حتى تشمل التاسع والعشرين.
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي: «وَإِنَّمَا ذَكَرَ اليَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الشَّكُّ فِي يَوْمَيْنِ، بِحُصُولِ الغَيْمِ أَوِ الظُّلْمَةِ فِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَلِذَا عَقَّبَ ذِكْرَ الْيَوْمِ بِالْيَوْمَيْنِ...اهــ، وعلى هذا؛ فإنّ المقصود بالحديث ابتداء هو النّهي عن صَوم يوم الشك، وهو الثلاثون من شعبان، وليس يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، وإذا اتسعت دائرة الشك شمل النهي يوم التاسع والعشرين.
باب: الصُّومُ لرُؤْية الهِلال
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْهِلَالَ فقال: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ، فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ»، الحديث رواه مسلم في الصوم (2/762) وجوب صَوم رمضان لرُؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنّه إذا غمّ في أوّله أو آخره، أكملت عدّة الشّهر ثلاثين يوماً، ورواه البخاري في الصوم (1909) باب: قول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا رَأَيْتُم الهلالَ فصُوموا، إِذَا رَأَيْتُموه فأفْطروا»، ورواه الشيخان أيضاً من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما.
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رَأيتموه فصُومُوا، وإذا رأيتمُوه فأفْطروا» فيه بيانُ متى يجبُ صَوم رمضان؟ ومتى يجبُ فِطْره؟ فيجبُ صيام رمضان إذا ثبتت رؤية هلاله شَرعاً، ويجبُ الفِطر برؤية هلال العيد.
قوله: «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ، فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ» أغْميَ، وفي رواية: «فإنْ غمّ عليكم» فمعناه: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غمّ وأغْمِي، وغَمِي وغُمّي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما، ويقال: غَبِي بفتح الغين وكسر الباء، وكلّها صحيحة، وقد غامت السماءُ وغيمت، وأغامت وتغيمت وأغمت.
ثبوت دخول رمضان
وهو يدل على أنّ رمضان يثبتُ دُخوله بواحدٍ مِنْ أمرين:
- الأول: رؤيةُ هلاله.
- والثاني: إكمَال عدّة شَعبان ثلاثين يوماً.
وأيضاً: يدلّ على وجُوب إكمال شعبان ثلاثين، إذا حالَ غيمٌ أو قَتَر أو ما إلى ذلك، فإنه يُصار إلى إكمال العدّة ثلاثين، وكذا حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في الصحيحين: «صُومُوا لرُؤيته، وأفْطرُوا لرُؤيته، فإنْ غُمَّ عليكم؛ فأكمَلُوا العدة»، وفي بعض الروايات: «فعدُّوا ثلاثين»، وهذا يدلّ على أنّ الواجب أنْ يصوم الناسُ لرؤية الهلال، وأنْ يفطروا لرؤية الهلال.
ويدلُّ أيضاً: أنه ليس لهم الصّوم بالحِسَاب، ولا بالاحتياط، بل لا بدّ مِنَ الرؤية، أو إكمال العدّة، فإذا غُمَّ هلال شعبان؛ فإنّه يكملُ ثلاثين، وإذا غُمَّ هلال رمضان، فإنه يكمَّل رمضان ثلاثين، فالشهر إمّا تسعةٌ وعشرون، وإمّا ثلاثون، فإذا رؤي الهلال في ثلاثين منْ شعبان، صام الناس، وإذا رُؤي في الثلاثين من رمضان أفطر الناس، فإنْ لم يُر أكمَلُوا شعبان ثلاثين وصاموا، وكملوا رمضان ثلاثين وأفطروا.
الأهِلَّة لحِسابِ الشُّهورِ والسِّنينَ
وقد جعَلَ اللهُ -سُبحانَه- الأهِلَّةَ؛ لحِسابِ الشُّهورِ والسِّنينَ، كما قال -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189). فبِرُؤْيةِ الهِلالِ يَبدَأُ شَهْرٌ ويَنْتَهي آخَرُ، وعلى تلك الرُّؤْيةِ تَتَحدَّدُ فَرائضُ كَثيرةٌ، كالصِّيامِ، والحَجِّ، والنُّصوص الشّرعية والأحاديث في هذا كثيرة، تدلّ على وجُوب اعتماد الرُّؤية، وأنّه لا يجوز اعتماد الحساب، ولا الصّوم أيضاً بمُجرد الاحتياط أو الظنّ، فلا بدّ من الرؤية، وقال -سبحانه-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)، ولا بدّ منْ إكمال العدة، هكذا شَرع الله -سبحانه وتعالى-، وهكذا قال علماء الإسلام، أنّه لا يُعتمد على الحساب في صيام رمضان؛ لأنّه مُعلّق برؤية الناس أو بعضهم، فلا يُؤخذ مثلاً: بحساب المُنجّمين، أو ما يدّعيه بعض الناس احتياطاً، بل لا بد مِنْ تعليق الرُّؤية بهلال رمضان.
لا يجوز صوم يوم الشكّ
قال النّووي: «وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهبِ مالك والشافعي والجُمهور، أنّه لا يجوز صوم يوم الشكّ، ولا يوم الثلاثين منْ شَعبان عن رمضان، إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم»، فإذا حَصل في الأحْوال الجَويّة غيمٌ أو قتر أو ما إلى ذلك، فإنه يُصار إلى العدة وإكمال شعبان ثلاثين يوماً، وهذا عليه جمهور الفقهاء وأهل الحديث، كما ذكر الصنعاني وغيره من أهل العلم رحمهم الله، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أناط صيام شهر رمضان وفطره، برؤية الهلال أو بإكمال العدة، ويستفاد منه أيضاً: أنّ يومَ الشك لا يَجوز صَومه، ويدلّ عليه أيضاً: حديث عمار - رضي الله عنه - السابق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مِنْ صامَ اليوم الذي يُشكّ فيه، فقد عَصَى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم ».
من فوائد الحديث
- الأمْرُ بالتَّأكُّدِ من رُؤيةِ الهلالِ عندَ بَدْءِ رمضانَ، أو الانتهاءِ منه.
- وفيه: بَيانُ حُكْمِ صِيامِ يومِ الشَّكِّ، ومثله الحديث الذي بعده.
- وفيه: أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أوْضَحَ لأمته كلّ أحكامَ الصِّيامِ، وضوابِطَه، ووقْتَه، كما في هذا الحديثِ وغيره.
من فوائد الحديث
- يُوضِّحُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا يُصامُ رَمضانُ إلَّا إذا رُؤِيَ الهِلالُ، وذلك بعْدَ غُروبِ شَمسِ اليومِ التَّاسعِ والعشرينَ مِن شَعبانَ، وكذلك لا يَنتَهِي الصِّيامُ ويُفطَرُ الناس، إلَّا عندَ رُؤيَةِ هِلالِ شَهرِ شَوَّالٍ، بعْدَ غُروبِ شَمسِ اليومِ التَّاسعِ والعشرينَ مِن شَهرِ رَمَضانَ.
- إنْ تَعذَّرتْ رُؤيةُ الهِلالِ بسبَبِ الغَيْمِ، أو لأيِّ سَببٍ مِن الأسباب، فإنَّه يُكمَّلُ الشَّهرُ، فيكونُ ثَلاثينَ يوماً؛ لأنَّ الشَّهرَ لا يَزيدُ على ذلك، فيَتحقَّقُ اليَقينُ بدُخولِه أو بخُروجِه.
- وفيه: عدمُ الاعتِمادِ على غيرِ رُؤيةِ الهِلالِ، كالحِسابِ الفَلَكيِّ.
لاتوجد تعليقات