شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: صَومُ مَنْ أد
عَنْ عَائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنهما- زَوْجَيْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُما قَالَتَا: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصْبِحُ جُنُباً، مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ، فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ يَصُومُ؛ وعَنْها -رضي الله عنها-: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِيهِ، وهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ، وأَنَا جُنُبٌ أَفَأَصُومُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ، وأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ»، فَقَال: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَال: «وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي». الحديثان رواهما مسلم في الصيام (2/780-781) باب: صحّة صوم مَنْ طلع عليه الفجرُ وهو جُنُب.
أمّا الحديثُ الأول: قولهما: «إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصْبِحُ جُنُباً» وفي رواية له: «كان رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُدْركه الفَجْر» يعني وقت الفجر، فيلزمه الصّوم وهو جُنُب، لا أنّها تُدركه الصلاة فيتأخر عنها، وفي رواية له عن أم سلمة: كان رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصْبح جُنُباً من جماعٍ لا مِن حُلُم، ثمّ لا يُفْطر ولا يَقْضي.
قولهما: «وهو جُنبٌ من أهله»
تُفسّره الروايات الأخرى، ومنْها: «يُصبح جُنُباً منْ جِماعٍ لا مِنْ حُلُم»، فإنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكنْ يَحتلم؛ لأنّ الاحْتلام منَ الشّيطان، والشّيطان لا سُلطان له عليه، وهذا مِنْ خصائصه الشريفة، ولا يعني ذلك أنّ الذي يُدْركه الفَجر مِن احْتلام أنّه لا يجوز له الصّيام، فليس الحُكم خاصّاً بمن أصابته الجَنَابة مِنْ أهله، وإنّما أنّ ذلك كان باختياره، فغيره الذي لا يقع باختياره كالمحتلم أولى بأنْ يُعْذر، فمَن أدْركه الفجر وهو جُنُب فإنّه يَصُوم ولا يُفطر يومه ذلك، ولا يجبُ عليه قضاء.
قولهما: «ثمّ يَغتسلُ ويَصُوم»
فيه أنّه لا علاقة للصّيام بالجَنابة، فلو أنّ إنْساناً لم يستطع الاغْتسال، أو كان فاقداً للماء، فإنّه يصومُ وصَومه صَحيح، وعليه التّيمم للصّلاة لا للصيام، ولا فرقَ بين صَومِ النَّفْل وصوم الفَرض في ذلك، ومثله الحائض: فإنّها إذا طَهُرت قبل الفجر، فإنّها تَصوم ولو لمْ تَغْتسل إلا بعـد طلـوع الفجر، لكن إذا لمْ تَطْهر ولمْ يَنْقطع الدم إلا بعد طُلوع الفجر، فإنّه لا يلزمها الإمْسَـاك، ولا يَصحّ أنْ تنوي الصّيام، وعليها القضاء.
الحديث الثاني
في هذا الحديثِ تَرْوي أمُّ المؤمنينَ عائشَةُ -رَضِي اللهُ عنها-: أنَّ رَجلًا جاءَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَستَفتيهِ في مَسألةٍ تخُصُّ طَهارةَ الصَّائمِ مِن الجَنابةِ، وكانت عائشَةُ -رَضِي اللهُ عنها- منْ وَراءَ البابِ تَسمَعُ، فأخبَرَ الرَّجلُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ صَلاةَ الفَجرِ تُدرِكُه وهو جُنبٌ، فهلْ يَصومُ على حالِ الجَنابةِ ثمَّ يَغتسِلُ بعْدُ؟ والجَنابةُ تُطلَقُ على كُلِّ مَنْ أَنزَلَ المَنِيَّ أو جامَعَ، وسُمِّيَ بذلك لاجتِنابِه الصَّلاةَ والعباداتِ حتَّى يَتطَّهَّرَ مِنها، فَقالَ له رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وأَنا تُدرِكُني الصَّلاةُ وأَنا جُنبٌ، فَأَصُومُ» وقدْ أجابه - صلى الله عليه وسلم - بفعلِه هو؛ لأنَّه أبلَغُ ممَّا لو قال له: اغتَسِلْ وصُمْ.
وهذا كما سبق بَيانٌ لمَشروعيَّةِ صِيامِ الجُنبِ قبْلَ الاغتسالِ؛ وذلك أنَّ حُدوثَ الجَنابةِ قبْلَ الفجرِ؛ لا تَمنَعُ مِن عقْدِ نِيَّةِ الصِّيامِ ولا تَقطَعُه.
فَقالَ الرَّجلُ: «لَسْتَ مِثلَنا يا رَسُولَ اللهِ؛ قَدْ غَفرَ اللهُ لَكَ ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَما تَأخَّرَ»، أي: إنَّ هذا مِن خَصائصِكَ، ولَيس عليك حرَجٌ فيما تَفعَلُ. وفي رِوايةِ أبي داودَ: «فَغَضِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -» وإنَّما غَضِبَ - صلى الله عليه وسلم - لاعتقادِ الرَّجلِ الخُصوصيَّةَ بلا عِلمٍ، مع كونِه أخبَرَه بفِعلِه - صلى الله عليه وسلم - جَوابًا لسُؤالِه.
وَاللهِ، إِنِّي لَأرجو أنْ أَكونَ أَخشاكُم لِلهِ
ثمّ قال له رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاللهِ، إِنِّي لَأرجو أنْ أَكونَ أَخشاكُم لِلهِ»، أي: أكونَ أشَدَّكم خَشيةً لله مِن عُقوبتِه، «وأَعلمَكُم بِما أَتَّقي»، أي: أكونَ أكثَرَكم عِلماً بما أتَّقِي به اللهَ -سُبحانه-، ورَجاؤه - صلى الله عليه وسلم - مُحقَّقٌ باتِّفاقٍ، وهَذا فيهِ إنكارٌ على مَن نَسَبَ لَه التَّقصيرَ في العِبادةِ، لِلاتِّكالِ على المَغفرَةِ.
ومثله حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَرَهُمْ، أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا». رواه البخاري في كتاب الإيمان حديث رقم (20): باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعلَمُكم بالله» وأنّ المعرفة فعل القلب.
كان - صلى الله عليه وسلم - يأمُر أصْحابه بما يُطيقون
قال الحافظ ابن رجب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمُر أصْحابه بما يُطيقون من الأعمال، وكانوا لشدّة حرصهم على الطاعات، يريدون الاجْتهاد في العمل، فربما اعتذروا عن أمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرّفق واسْتعماله له في نفسه، أنّه غير محت اجٍ إلى العمل، بضمانِ المَغفرة له، وهم غير مضمونٍ لهم المغفرة، فهم يَحتاجون إلى الاجتهاد ما لا يحتاج هو إلى ذلك، فكان - صلى الله عليه وسلم - يَغضب من ذلك، ويخبرهم أنّه أتقاهم وأعلمهم به.
عِلمُ النبي عِلمُ يقين
فكونه أتقاهم لله يتضمن شدّة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله وإنّما زاد علمه بالله لمعنيين:
- أحدهما: زيادة معرفته بتفاصيل أسْمائه وصفاته وأفعاله، وأحكامه، وعظمته وكبريائه، وما يستحقّه من الجَلال والإكْرام والإعظام.
- والثاني: أنّ عِلْمه بالله مستندٌ إلى عينِ اليقين، فإنّه رآه إمّا بعين بصَره، أو بعين بَصِيرته، كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: رآه بفؤاده مَرتين. وعلمهم به مستندٌ إلى علم يقين، وبين المرتبتين تباين، ولهذا سأل إبراهيم -عليه السلام- ربه أن يُرقّيه منْ مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، بالنسبة إلى رؤية إحْياء الموتى. قال: فلما زادت معرفة الرسول بربّه، زادت خشيته له وتقواه، فإنّ العلم التام يستلزم الخشية كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: 28). فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى، إنّما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله.
وقد خرج البخاري في آخر «صحيحه» عن مسروق قال: قالت عائشة: صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ترخّصَ فيه، وتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله، ثمّ قال: «ما بالُ أقوام يتنزّهون عن الشَّيء أصْنَعه؟! فوالله إني لأعْلَمُهم بالله، وأشَدّهم خَشية».
ما يؤخذ من الحديثين
- الصِّيامِ عبادة لها أحْكامٌ يَنبغِي للمُسلمِ أنْ يَعلَمَها ويَعمَلَ بها وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم واجباتِه وسُننَه ومَكروهاتِه بالقولِ والفعلِ
- وفيهما: أنّ الأحْكام الشّرعيّة الأصلُ فيها أنّها ليستْ خاصّة بالنّبي صلى الله عليه وسلم بل هي للأمّة عامة
- وفيهما: تيسير الإسْلام على العباد فيما يسّر الله فيه عليهم، لا في ترك الطّاعات.
لاتوجد تعليقات