شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: النَّهيّ عن ا
عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوِصَالِ؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ المُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْماً، ثُمَّ يَوْماً، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ، فَقَال: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ؛ لَزِدْتُكُمْ» كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. رواه مسلم في الصيام (2/774) باب: النّهي عن الوصال في الصوم، ورواه البخاري في الصوم (1967) باب: الوِصَال إلى السّحر، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه .
قوله: «نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال» ورواه أيضاً ابن عمر وعائشة وأنس بن مالك. والوصال: هو متابعة الصّوم دون الإفطار بالليل، قاله القاضي عياض. وقال ابن الأثير، الوِصَال: ألا يفطر يومين أو أياماً، فهذا هو الوِصَال، فيَجعل الليل كالنهار، ولذلك نَهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، فيخبرُ أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مُواصَلةِ الصَّومِ بتَرْكِ الطَّعامِ لَيْلًا ونَهارًا، قَصْدًا وعَمْدًا؛ حيثُ إنَّ الوِصالَ لَم يُشْرَعْ للأُمَّةِ؛ رَحمةً ورِفقًا بهم.
النّهيّ عن الوصال في الصّوم
والنّهيّ عن الوصال في الصّوم؛ لما فيه من الضّرر الحاصل أو المُتوقع للإنسان، وشريعة الإسلام هي شريعة اليسر، كما قال -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُريد بكم العسر} البقرة: 185، فهي شريعة مُيسرة سَمحة لا عنتَ فيها ولا مشقة، والشّارع الحكيم يكره التّعمق والغلو، وتعذيب النّفس وإرْهاقها؛ فالله لا يُكلف نَفْساً إلا وسْعها، ثمّ إنّ النهي عن الوصال، هو من باب التيسير والتسهيل،
وليبقى عمل الإنسان ويدوم، وأيضًا فيه سلامة من الملل والسآمة، وفيه إعطاء النفس حقّها، وعدم إهمال الأمور الأخرى؛ ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الوصال؛ لما فيه من الضرر الحاصل أو المتوقع.
أما حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: «فأيّكم أرادَ أنْ يُواصِل، فليواصِل إلى السَّحَر». رواه البخاري، فهذا يدلّ على جواز الوصال إلى السَّحر، يعني مَنْ أحبّ أنْ يُواصل، فإنّه يُواصل إلى السَّحر فقط، والسَّحَر: آخر الليل.
إني لست كهيئتكم
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لست كهيئتكم» كهيئتكم: كصفتكم. «إنّي أطعم وأسْقى» فيه جواز الوصال للنّبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمّته - صلى الله عليه وسلم -، وفي اللفظ الآخر أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لي مُطْعِمٌ يُطْعمني، وسَاقٍ يَسْقيني»، وهذا في الصحيحين. وعند الإمام أحمد: أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني أظلّ عند ربّي يُطعمني ويُسقيني» فالنّبي - صلى الله عليه وسلم - جائز له أنْ يُواصل دُون أمّته؛ فهو القائل: «لستُ كهيئتكم» - صلى الله عليه وسلم -، لاسْتغنائه عن الطّعام والشّراب بما في قلبه مِنْ ذِكر الله -تعالى- والأنس بمناجاته.
النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوةٌ لأصْحابه أجْمعين
وقول الصّحابة -رضي الله عنهم-: «إنّك تُواصل» ليس فيه اعتراضٌ، وإنّما هو سُؤالٌ واستفسارٌ عن كونه - صلى الله عليه وسلم - يُواصل، ونَهى عن الوِصال؛ لأنّه قدوةٌ لأصْحابه أجْمعين، وكان إذا أمَرهم - صلى الله عليه وسلم - بأمْرٍ، ابتدروا أمره - صلى الله عليه وسلم -؛ فلذلك سألوه فأجابهم: «إني لستُ كهيئتكم، إنّي أُطْعم وأسْقى» وهذا فيه بيانُ حسن تعليم وتربية النّبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه بين لصحابته الفرق بينه وبينهم، بأنّه يُطْعم ويسقى - صلى الله عليه وسلم -، ليزدَادوا طمأنينة وتسليماً لهذا الحُكم.
قوله -صلى الله عليه وسلم -: «إنّي أطْعَم وأسْقى»
وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «إنّي أطْعَم وأسْقى» ذهبَ بعض العلماء أنّه على حَقيقته، فيرى أنّه طعامٌ وشرابٌ حسِّي، يستغني به عن الطّعام والشراب، تمسّكاً بظاهر الحديث.
والقول الثاني وهو الراجح: أنّه ليس على حَقيقته، بل يُريد - صلى الله عليه وسلم - ما يُعطيه الله -تبارك وتعالى- لنبيّه مِنْ قوة الطّاعم والشّارب والآكل، لاسْتغنائه عن المَطْعومات والمَشروبات بما في قلبه مِنْ ذِكر اللهِ -تعالى-، والأُنسِ به -سبحانه وتعالى-، فيَسْتغني بهذه الفُيوضات التي تأتيه مِنْ ربّه عن الطّعام والشّراب، وهذا هو القول الراجح، أنّ اللهُ -تعالى- يجعَلُ فيه قُوَّةَ الطَّاعِمِ الشَّارِبِ، ويُفيضُ عليه ما يسُدُّ مَسَدَّ الطَّعامِ والشَّرابِ، ويُقَوِّي على أنواعِ الطَّاعةِ مِن غَيرِ ضَعفٍ في القُوَّةِ.
قال ابن كثير: «الأظْهر أنّ الطّعام والشّراب في حقّه - صلى الله عليه وسلم - إنّما كان مَعنوياً لا حسِّياً، وإلا فلا يكون مُواصِلاً مع الحسِّي». وأشار إليه الحافظ ابن حجر -رحمه الله.
ومن هذا الباب: أنّ شيخ الإسْلام ابن تيميّة -رحمه الله-، كان قليلاً ما يأكلُ الطعام، أو يتناول الشّراب، ويُنْشد كثيراً بيت المتنبّي:
لها أحاديثُ مِنْ ذِكْراكَ تَشْغلُها
عن الشّرابِ وتُلْهِيها عن الزّاد
حُكم الوِصَال
أما حكم الوصال فقد اختلف فيه أهل العلم -رحمهم الله تعالى- على أقوال:
قول جمهور أهل العلم
قول جُمهور أهل العلم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي، فيذهبون إلى تَحْريمه، وأمّا الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، وإسحاق وجماعة من المالكية، فذهبوا إلى التفصيل، فهو عندهم جائز إلى السَّحر، عملاً بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: «فأيُّكم أرادَ أنْ يُواصلَ فليُواصلْ إلى السَّحَر». رواه البخاري. مع أنّ الأولى تَرك الوِصَال تحقيقاً لتعجيل الإفْطار، ويُكره إذا زادَ عن يومٍ وليلة، وهذا التفصيل الذي اختاره الإمام أحمد، هو أعدلُ الأقوال كما قال العلامة ابن القيم.
فهذا هو أعدلُ الوصال وأسْهله؛ لأنّه -في الحقيقة- أخّر عَشَاءه، ونعلم أنّ الصائم في اليوم والليلة له أكلة، فكأنّه آخّرها فجعلها مع السَّحور، والأحْسن والأولى أنْ يتركَ الوصَال مُطلقاً، للحِرص على سُنَّة التعجيل بالفطر، ففطر الإنسان في أول الليل لا شك أنّه أفضل وأولى، للحديث السابق: «لا يزالُ الناسُ بخَيرٍ ما عجَّلوا الفِطْر»؛ وحديث: «أحبُّ عبادي إليَّ أعْجلُهم فِطراً».
قوله: «فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الوِصَالِ»
قوله: «فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الوِصَالِ؛ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْماً، ثُمَّ يَوْماً، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ» أي: واصَل بهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّومَ يَومَينِ، ثُمَّ رأَوا هِلالَ شَوَّالٍ، «فَقَال: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ؛ لَزِدْتُكُمْ» كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. أي: قاَل ذلِك زَجرًا وتَأديبًا لهم؛ حيث كلَّفوا أنفُسَهم ما لا يَطيقون، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لوْ تَأخَّر لزِدْتُكم»، أي: لَيْتَه تَأخَّرَ هِلالُ شَوَّالٍ حتَّى أَزِيدَ في عَددِ أيَّام الوِصالِ، «كالمُنَكِّل بهم حينَ أَبَوْا».
فوائد الحديث
- النَّهيُ عن الوِصالِ.
- أنّ العِباداتُ أُمورٌ توقيفيَّةٌ تُؤدَّى كما أمر بها الشَّرعُ، وقد أُمِرْنا أن نتَّقِيَ اللهَ قَدْرَ الاسْتطاعةِ دونَ مَشَقَّةٍ على الأنفُسِ، وألَّا نتشَدَّدَ في الدِّينِ؛ لأنَّ النَّاسَ يختَلِفون في قُدُراتِهم وتحمُّلِهم، ولما في المُواصلة في الصوم إلى ما بعد السّحر مِنَ الضّرر الحاصل أو المتوقع.
- النّهيّ عن الوصال من تمامِ شَفَقةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم -، ورَحمتِه بأُمَّتِه، وخوفِه عليها من المَللِ من العِبادةِ، والتَّعرُّضِ للتَّقصيرِ، وحتى لا تمَلَّ النُّفوسُ مِنَ العِباداتِ ومِن أوامِرِ الدِّينِ.
- وفيه: العدل الذي وضعه الله في الأرض، وهو إعطاء الله ما طلبه من العبادة، وإعطاء النفس حاجتها ومقوماتها.
- وفيه: حِرص الصحابة على الخير وعلى ما يُقرّب من الله، ومَحبتهم للفضل، فرغبوا في الْوِصَالِ تأسياً بالنّبي -صلى الله عليه وسلم - في كونه يُواصل، وقالوا له: إنّك تواصل.
- بعضَ الصَّحابةِ لم يمتَنِعوا عن الوِصالِ، لعلمهم أنَّ نَهْيَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنّما هو نَهْيَ تنزيهٍ لا تحريمٍ.
- فيه: أنّ الأصل التأسي بالنّبي -صلى الله عليه وسلم -، حتى يقوم دليل خصوصية الحكم به.
- أنّ غروبَ الشّمس وقت للإفطار، ولا يَحصل به الإفطار، وإلا لما كان للوِصال معنى إذا صار مُفطراً بغروب الشمس.
- جواز الْوِصَالِ إلى السَّحَرِ لمن قَدر عليه، وتركه أولى.
- رحمة الشارع الحكيم الرحيم بالأمة؛ إذ حرَّم عليهم ما يضرّهم.
- الوِصَال من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم .
- أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ويبادرون إلى التأسي به إلاَّ فيما نهاهم عنه.
- حُسْنُ تعليم النّبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيثُ بيّن للصّحابة الفَرْق بينه وبينهم، ليزدادوا طمأنينة في الحُكم.
لاتوجد تعليقات