شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: التّخْيِيرُ فِي الصَّومِ والفِطْرِ في السَّفَرشرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: التّخْيِيرُ فِي الصَّومِ والفِطْرِ في السَّفَر Copy
عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ – رضي الله عنه - أَنَّهُ قَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ – رضي الله عنه - قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، ومَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. في الباب حديثان رواهما مسلم في الصيام (2/789-790)، وبوّب عليهما بمثل تبويب المنذري، وحديث أبي الدَّرْدَاءِ – رضي الله عنه -: رواه البخاري أيضاً في الصوم (1945). في الحَديث الأول: أنَّ حَمزةَ بنَ عمْرٍو الأَسلميَّ – رضي الله عنه - سَأَلَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: هلْ يَصومُ في السَّفرِ أو يُفطِرُ؟ فخيَّره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيْن الصِّيامِ والإفطارِ، وذلك بقولِه له: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ». وفي رواية: «إنْ شِئتَ فصُمْ، وإنْ شِئتَ فأفطِرْ»، فالإفطارُ في السَّفرِ رُخصةٌ مِن اللهِ -عز وجل- لمَن وجَبَ عليه الصَّومُ؛ فمَن أخَذَ بها فحسَنٌ، ومَن لم يَأخُذْ بها فلا شَيءَ عليه، وقد كان حَمزةُ بنُ عمْرٍو الأَسلميُّ – رضي الله عنه - كَثيرَ صِيامِ التَّطوُّعِ، كما جاء في الصَّحيحَينِ أنَّه كان يَسرُدُ الصِّيامَ، أي: يُتابِعُه ويَأتي به مُتواليًا، باستِثناءِ الأيَّامِ المَنهيِّ عن صِيامِها، كالعيدينِ وأيَّامِ التَّشريقِ ونحوها. السَّفرُ لا يَخْلو مِن المَشقَّةِ والسَّفرُ لا يَخْلو مِن المَشقَّةِ البَدنيَّةِ والنَّفسيَّةِ؛ ولذا خفَّفَ اللهُ -عز وجل- عن المُسافرِ، ورخَّصَ له في بَعضِ التَّكاليفِ، وقدْ كان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وبَعضُ الصَّحابةِ يَأخُذونَ أنفُسَهم بالعَزيمةِ دُونَ الرُّخصةِ، ما وَجَدوا القوَّةَ لذلك؛ تَقرُّبَاً إلى اللهِ -عز وجل. الحديث الثاني في هذا الحديثِ يَحكي أبو الدَّرداءِ – رضي الله عنه - أنَّهم خرَجوا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفرٍ في يَومٍ شَديدِ الحرارةِ، وكان ذلك في رَمضانَ، حتَّى إنَّ الرَّجُلَ منهم كان يَضَعُ يدَه على رأسِه يَتَّقي بها شِدَّةَ حَرارةِ شَمسِ ذلك اليومِ، وليس فيهم أحدٌ صائمٌ سِوى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ – رضي الله عنه -؛ أمّا باقي الصَّحابةِ -رضي الله عنهم- فقد أخَذوا بالرُّخصةِ التي في قَولِ اللهِ -تعالَى-: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). ومرّ معنا حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ – رضي الله عنه - قَال: غَزَوْنَا مع رسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، ولَا المُفْطِرُ علَى الصَّائِمِ. فطر النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وقد ورَدَ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أفطَرَ في بَعضِ أسفارِه، وعاب على الصَّائمينَ، إذا كان الصيام يفوت مصلحة أعظم، كما في صَحيحِ مُسلمٍ عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما-: «أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ عامَ الفتْحِ إلى مكَّةَ في رَمضانَ، فصام حتَّى بَلَغَ كُراعَ الغَميمِ، فصامَ النَّاسُ، ثمَّ دَعا بقدَحٍ مِن ماءٍ فرَفَعَه، حتَّى نَظَرَ النَّاسُ إليه، ثمَّ شَرِبَ، فقِيل له بعْدَ ذلك: إنَّ بَعضَ النَّاسِ قدْ صامَ، فقال: أولئكَ العُصاةُ، أولئك العُصاةُ»! فوَصَفَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّائمينَ بالعُصاةِ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَرَ أمرًا فيَجِبُ امتِثالُه، وهو تارةً يَأمُرُ بِمَقالِه، وتارةً يَأمُرُ بفِعالِه، فلمَّا أَفْطَرَ كان آمِرًا بلِسانِ الحالِ قاصِدًا بذلك الرُّخْصةَ؛ لِيَقْوَى بالفِطرِ على الجِهاد، فلمَّا رَغِبَ هؤلاءِ عن فِعلِه كانوا على غَايةِ الغَلَطِ؛ فلذلِك سُمُّوا عُصاةً مِن حيثُ إنَّ فِعلَهم ذلك تَجاوَزُوا فيه الشَّرْعَ.
ما يستفاد مِنَ الحديثين
1-الرخْصةُ بالفِطْر في السّفر؛ لأنّ السَّفر مظنّة المَشَقّة، قال -تبارك وتعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). 2- تخييرُ المَسَافر بين الصّيام والفطر في أثناء السّفر. 3- صحّة صوم رمضان للمُسافر، إذا كان يجد قوةً وقُدْرة على الصّيام، وهذا الحديث يدلُّ على هذا، فإنّ هذا الصّحابيّ كان كثيرَ الصيام، ما يدل على أنّه عليه يسير، وهو شابٌّ – رضي الله عنه - من شباب الصحابة، لأنه أسلم قبل الهِجرة بعشر سنين – رضي الله عنه -، ويجد قوة، ولذلك قال له النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ شِئْتَ فَصُم، وإنْ شِئْت فأفطر». 4- السَّفَرُ قِطعةٌ مِن العَذابِ، وهو مَظِنَّةُ التَّعَبِ والمَشقَّةِ؛ لذلِك خفَّفَ اللهُ -سُبحانَه وتعالَى- عنِ المُسافِرِ، ويسَّرَ عليهِ في الأحْكامِ الشَّرعيَّةِ، وقد كان بَعضُ الصَّحابةِ يَأخُذونَ أنفُسَهم بالعَزيمةِ دُون الرُّخصَةِ؛ تَقرُّباً إلى اللهِ -عز وجل. 5- قول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ شِئْتَ فصُم، وإنْ شِئْت فأفطر». فقوله: صُم وأفطر: فعل أمْر، والأمْر فيهما للتخيير والإباحة. 6- وفيه: حِرْصُ صحابة النّبي - صلى الله عليه وسلم - على العِلم والفقه في الدّين، ليعملوا به، وسُؤالهم عمَّا يجهلون، منْ أمرِ الدِّين والدنيا. 7- وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ شئْتَ فَصُم، وإنْ شِئت فأفطر» إثباتُ المَشيئة للعبد، وبُطْلان مذهب الجبريّة، القائلين بأنّ الإنسان لا مشيئة له. 8- وفيه فضيلة ومنقبة لهذا الصحابي الجليل: حَمْزة بن عمرو الأسْلمي – رضي الله عنه -، فعندَه جَلد وقوة على الصيام، وفيه حبٌ للخير، ومنْ دلالة حبّه للخير؛ أنّه كثيرُ الصيام، ولذلك في رواية مسلم قال: «إني رجلٌ أسْرُدُ الصّوم، أفأصُوم في السّفر؟»، فهذا يدلّ على حِرْص شبابِ الصّحابة على الصيام، وعلى التّقرّب لله تبارك وتعالى، والمسابقة في فعل الخيرات. 9- وفيه: تفاضلُ الناسِ في الأعْمال، والعِبادات والطّاعات، وأنّه يُفتح على شخصٍ ما لا يُفتح لغيره، فبعضُ الناس يُفتح عليه في الصّيام، وبعضُهم في القيام، وبعضُهم في القرآن والعِلم ونَشْره، وآخر في الجِهاد، ولذلك جاءت وَصَايا النبي - صلى الله عليه وسلم - مُتفاوتة بحَسْب تفاوت الناس، وقدراتهم وأحوالهم، ومنه هذا الصّحابي الذي كان كثير الصيام، ويجد – رضي الله عنه - قُدْرة على الصّيام.
لاتوجد تعليقات