شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 50 ) باب : استخلاف الإمام إذا مرض وصلاته بالناس
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
321.عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ لَهَا: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَتْ: بَلَى ، ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ» فَقُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا، يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، وَقَالَ لَهُمَا: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ، عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَاتِ، فَعَرَضْتُ حَدِيثَهَا عَلَيْهِ ، فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟ قُلْتُ : لَا، قَالَ : هُوَ عَلِيٌّ .
الشرح : قال المنذري : باب : استخلاف الإمام إذا مرض وصلاته بالناس .
والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/311) وبوب عليه النووي : باب استخلاف الإمام إذا عَرض له عذرٌ من مرضٍ وسفر وغيرهما منْ يصلي ، وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه ، ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام .
قوله « دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ لَهَا: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثقل أي: عجز عن الخروج للصلاة بالمسلمين» .
قولها فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» أي: هل صلى الناس الذين ينتظرونني بالمسجد.
قولها: «قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» المخضب إناء يغتسل فيه، ونحوه المركن .
قولها: «فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ» فيه دليل على استحباب الغسل من الإغماء ، وإذا تكرر استحب تكرر الغسل لكل مرة ، وإن لم يغتسل إلا بعد الإغماء مرات ، كفى غسل واحد .
وقد حمل عياض الغسل هنا على الوضوء؟! من حيث أن الإغماء ينقض الوضوء، والصواب: أن الغسل هو الغسل، وهو مستحب لمن أغمي عليه، وأن الواجب عليه فقط هو الوضوء لانتقاض الطهارة .
قولها: «ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوء» ذهب لينوء أي: يقوم وينهض .
قولها: «فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ» فيه دليل على جواز الإغماء على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولا شك في جوازه، فإنه مرض، والمرض يجوز عليهم، بخلاف الجنون، فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقص وعيب، وقد نزه الله عنه أنبيائه، كما قال سبحانه: {وما صاحبكم بمجنون}.
والحكمة في جواز المرض عليهم وغيرها من مصائب الدنيا، تكثير أجرهم، وكونهم أسوة للناس فتحصل السلوة بهم للمصابين، ولئلا يفتتن بهم الناس ويعبدوهم من دون الناس لما يظهر على أيديهم من المعجزات، والآيات البينات (انظر النووي 4/136)
ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فيه دليل على أنه إذا تأخر الإمام عن أول الوقت، ورجي مجيئه قريبا، فإنه ينتظر ولا يتقدم عليه غيره .
قولها « والناس عكوف « أي : مجتمعون منتظرون لخروج النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة بهم، وأصل الاعتكاف: اللزوم والحبس . قوله: «لصلاة العشاء الآخرة» فيه دليل على صحة قول الإنسان: العشاء الآخرة، وقد أنكره الأصمعي، والصواب جوازه وقد ورد في الأحاديث النبوية وعن الصحابة.
قَالَتْ : فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا -: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ» فيه فضيلة أبي الصديق رضي الله عنه وأرضاه وترجيحه على جميع الصحابة ، وتفضيله عليهم .
وفيه تبيهٌ على أحقيته بخلافة النبي صلى الله عليه وسلم في إمامة الصلاة ، وهي الإمامة الدينية ، وغيرها من أمور الدنيوية من باب أولى .
وفيه أيضا: أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة، استخلف من يصلي بهم ، وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم .
وفيه: فضيلة عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر الصديق؛ لأن أبا بكر لم يعدل إلى غيره .
وفيه: جواز الثناء في الوجه، لمن أمن عليه الإعجاب والفتنة، لقوله: «أنت أحق بذلك».
وقوله: «وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا» أي: كثير الحزن والبكاء ، لا يملك عينيه.
قَالَتْ: «فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ» والآخر بيّنه ابن عباس رضي الله عنهما بأنه علي رضي الله عنه.
وفي رواية غير مسلم «بين رجلين: أحدهما : أسامة بن زيد» وطريق الجمع بينها: أنهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ، تارة هذا، وتارة هذا، ويتنافسون في ذلك، وهؤلاء هم خواص أهل بيته ، وأكابر أصحابه. وأكرموا العباس رضي الله عنه لاختصاصه به واستمراره معه، لما له من السن والعمومة، ولهذا سمته عائشة رضي الله عنها وأبهمت الآخر ، والله أعلم .
قولها « وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، وَقَالَ لَهُمَا: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْر» فيه جواز وقوف المأموم إلى جنب الإمام لمصلحة كإسماع المصلين صوت الإمام، أو حاجة كضيق المكان، ونحو ذلك.
قولها: «وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَاعِد» أي: كان أبو بكر رضي الله عنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم بصلاته، والناس يتابعون أبا بكر بصوته وحركاته. وللعلماء في الجمع بين الأحاديث التي فيها صلاته قاعدا وهم قيام، وبين الأحاديث السابقة التي صلى فيها وهو قاعد وأمرهم بالقعود، ثلاثة أقوال:
أحدها: القول بالنسخ، وأن أمره لهم بالقعود كان أولاً ثم نسخ ، فوجب القيام خلف الإمام الراتب إذا صلى قاعدا ؛ لأن هذا هو الآخر من فعله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر ، وإلى هذا ذهب البخاري والنووي وجماعة .
الثاني: الجمع بينهما بحمل الأمر بالقعود على الاستحباب، والأمر بالقيام على الجواز ، وهذا هو الأرجح؛ لأن الجمع بين النصوص مقدم على النسخ ؛ لأن فيه عملا بها كلها.
الثالث: أنه إذا ابتدأ الصلاة قاعداً وجب عليهم القعود، وإذا ابتدأ الصلاة قائما ثم اعتلّ فجلس، وجب عليهم القيام، جمعا بين الأحاديث ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام في مرضه الأول ابتدأ الصلاة قاعدا، وفي مرضه الأخير ابتدأ أبو بكر بالناس الصلاة قائما، ثم جاء النبي فصلى بهم جالسا .
وأرجح هذه الأقوال: الثاني ثم الثالث، والله تعالى أعلم .
لاتوجد تعليقات