شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 131 ) باب: قصر الصلاة في الحج
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
439.عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قال: خَرَجْنَا مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكعَتَيْنِ، حتَّى رَجَعَ، قُلتُ: كمْ أَقَامَ بِمَكَّةَ؟ قَال: عَشْرًا. وفي رواية: خَرَجْنَا مِنْ المَدِينَةِ إلى الْحَجِّ.
الشرح: قال المنذري: باب: قصر الصلاة في الحج. وقد أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/481) . الحديث أخرجه البخاري في تقصير الصلاة (2/561) باب: ما جاء في التقصير، وكم يُقيم حتى يقصر ؟
قوله: «خَرَجْنَا مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكعَتَيْنِ»، المراد بهذا السفر، سفره صلى الله عليه وسلم في حَجة الوداع، فقد قدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة، فأقام بها الخامس والسادس والسابع، وخرج منها في الثامن إلى منى، وذهب إلى عرفات في التاسع، وعاد إلى منى في العاشر، فأقام بها الحادي عشر والثاني عشر، ونفر في الثالث عشر إلى مكة، ونفر منها إلى المدينة في الرابع عشر، فكانت المدة كلها عشرا، وكان يقصر الصلاة فيها كلها، أي: في مكة وما حولها.
وقد استَدل بهذا الحديث مَنْ قال: بأنّ نهاية السفر أربعة أيام! وأن الثلاثة أيام ليست إقامة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قدِم مكة حاجا أقام فيها ثلاثة أيام يقصر، ثم خرج في اليوم الرابع إلى منى؛ فالقصر لمن يعلم متى يرجع لا يزيد على أربعة أيام!
وهذه المسألة وهي تحديد مدة القصر للمسافر، وما يتعلق بها من المسائل، لم يرد فيها دليلٌ فاصل يقطع النزاع؛ فلذلك اختلفت فيها أقوال العلماء، فمنهم مَن يرى أنّ المسافر إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، فإنه ينقطع حكم السفر في حقه ويلزمه الإتمام، وهو قول الحنابلة والشافعية والمالكية، واستدلوا بالحديث السابق وغيره.
وذهب الأحناف إلى أنه إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يوماً، أتم صلاته.
والأئمة الأربعة متفقون: على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها، يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً. كما في زاد المعاد لابن القيم (3/493).
والاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق ، مُتعقّب من وُجوه عدة:
- الوجه الأول: أنّ هذا حكاية فِعْل وواقعة، ولا يُمكن الاستدلال به على انقطاع أحكام السفر، بمضي أربعة أيام.
- الوجه الثاني: أنّ الاستدلال بفعله هذا بناء على ظَنّ! وليس بنص ولا بينة واضحة، والظنّ لا يُغني من الحق شيئا! وذلك أنهم قالوا : لو أقام بمكة أكثر من أربعة أيام أتَمّ!
وهذا مُتعقّب بـ:
- الوجه الثالث: أنّ القول بأنه صلى الله عليه وسلم لو أقام بمكة أكثر من أربعة أيام لم يقصر، ليس أوْلَى من القول بِضِدِّه، وهو أنه لو أقام بمكة أكثر أربعة أيام قصر، بل هو الصحيح؛ وذلك لأنه لا يصِحّ أنه عليه الصلاة والسلام أتَمّ في سفره قط ، ولو كان صلى الله عليه وسلم يُتِمّ في سفره لكان الحَمْل على ذلك له وَجْه.
فتعيَّن أنه لو أقام بمكة أكثر من أربعة أيام لَقَصَر؛ لأنه متوافق مع سائر أسفاره، فقد سافر صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يوما، ففي حديث ابن عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: أَقَامَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ تسعةَ عَشَرَ يومًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإنَّ رسول الله كان يُسافر أسفاراً كثيرة، قد اعتمر ثلاث عُمر سوى عمرة حجته، وحجّ حجة الوداع ومعه ألوفٌ مُؤلّفة، وغَزا أكثر من عشرين غَزاة، ولم يَنقل عنه أحدٌ قط أنه صلى في السفر لا جمعةً ولا عيداً، بل كان يُصلي ركعتين ركعتين في جميع أسفاره، ويوم الجمعة يُصلي ركعتين كسائر الأيام. اهـ .
- الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبيِّن لأصحابه أنهم إذا أقاموا أكثر من أربعة أيام أن يُتِمُّوا! ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما هو معلوم.
- الوجه الخامس: أن الإقامة مُمتنِعة في حقِّه صلى الله عليه وسلم بمكة، وفي حق المهاجرين، لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا». وفي الرواية الأخرى: «مُكثُ المهاجر بمكة بعد قضاء نُسكه ثلاثا». وفي رواية: «للمهاجرِ إقامة ثلاثٍ بعد الصدر بمكة»؛ كأنه يقول: لا يزيد عليها. رواها مسلم .
ومعنى الحديث: أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَحرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أُبيح لهم إذا دخلوها بحجٍ أو عمرة أو غيرهما، أنْ يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام، ولا يزيدوا على الثلاثة.
قال النووي: واستدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث، على أنّ إقامة ثلاثة ليس لها حكم الإقامة، بل صاحبها في حكم المسافر .
وقال ابن عبد البر: ليس مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إذْ دخلها لحجته بإقامة؛ لأنها ليستْ له بدار إقامةٍ ولا بِمَلاذ، ولا لِمُهَاجِريّ أن يتخذها دار إقامة ولا وطن، وإنما كان مقامه بمكة إلى يوم التروية، كمقام المسافر في حاجة يقضيها في سفر منصرفاً إلى أهله، فهو مقام مَن لا نِـيَّـة له في الإقامة، ومن كان هذا فلا خلاف أنه في حُكم المسافر يقصر، فلم يَنوِ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إقامة. اهـ .
- الوجه السادس: أن أقوال الصحابة قد تباينت في تحديد مُدّة الإقامة ؛ فروى البخاري: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة، فإذا زدنا أتممنا.
وتقدّم قول أنس -رضي الله عنه-: أقمنا بها عشراً. رواه البخاري ومسلم .
وذَكَر ابن عبد البر في تحديد مدّة الإقامة أحد عشر قولاً.
ورُوي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: إذا أقام عشرة أيام أتم. ذَكَره ابن عبد البر.
- الوجه السابع : أنهم عدوا خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى منى انقطاعا لإقامته صلى الله عليه وسلم -لو صحّ عدها إقامة- ومعلوم أنهم لا يقولون بِأن ما بين مكة ومِنى يُعد سفراً؛ فإن مِنى في حُكم مكة، وهي تابعة لها؛ ولذلك عد أنس -رضي الله عنه- إقامته صلى الله عليه وسلم في حجته عشرة أيام، وهي مدة إقامته في حجة الوداع، قال قلت: كم أقام بمكة ؟ قال: عشراً؛ لأنّ منى تابعة لِمكة.
وروى الإمام مالك: عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلّى بهم ركعتين، ثم يقول: يا أهل مكة أتمُوا صلاتكم، فإنا قومٌ سَفْر. ومن طريقه رواه البيهقي .
فالأقوال في المسألة إذاً يجمعها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أن القصر ثلاثة أيام أو أربعة، فمن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام أتَمّ .
- القول الثاني: يُقابل هذا القول، وهو أنّ مَن سافر، فإن له أنْ يقصر مهما طال سفره.
- والقول الثالث: وهو الوسّط بين الفريقين: أنّ له أن يقصر ما دام مُسافرا، ما لم ينوِ الإقامة المطلقة.
والإقامة المطلقة أو الاستيطان: هي أنْ يأتي طالب العلم، أو التاجر أو العامل إلى بلد، فيجد فيه ما يطلبه من العلم والتجارة والعمل، فينوي فيه إقامةً غير مقيدةٍ بزمن؛ فهذه هي الإقامة المطلقة التي تقطع عنه حكم السفر، وعلى هذا فإنه يتم صلاته، ولا يجوز له القصر، ولا الجمع بحجة السفر، بدليل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقام مُدداً مختلفة يقصر فيها، فأقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود.
مسألة: إذا نسي صلاة الحضر، فذكرها في السفر، فعليه أنْ يُصليها صلاة حضر تامة من غير قصر إجماعًا؛ لأن الصلاة تعيَّن عليه فعلها أربعًا، فلم يجز له النقصان من عددها؛ ولأنه إنما يَقضي ما فاته وقد فاته أربعٌ.
وأما إنْ نَسي صلاة السفر فذكرها في الحضر، فقال مالك والثوري وأصحاب الرأي: يصليها صلاة سفر؛ لأنه إنما يقضي ما فاته، ولم يفته إلا ركعتان. وقال أحمد: عليه الإتمام احتياطًا، وبه قال الأوزاعي وداود، والشافعي في أحد قوليه.
وإنْ نسيها في سفر وذكرها فيه، أو ذكرها في سفرٍ آخر قضاها مقصورة؛ لأنها وجبت في السفر، وفعلت فيه.
والله عز وجل أعلم.
لاتوجد تعليقات