شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم- باب: كراهية المسألة للناس
الحديث الثاني: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنْ النَّاسِ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا؛ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»، الحديث الثاني في الباب: أخرجه مسلم في الزكاة الباب نفسه، وخرَّجهُ البُخاريُّ في الزكاة (1480)، وفي لفظ آخرَ لمسلم: «لأنْ يَحتزمَ أحدُكُمْ حُزمةً مِنْ حَطَبٍ، فيحملَها على ظهرِهِ فيبيعَها، خيرٌ لهُ مِنْ أنْ يسألَ رجلًا يعطيهِ، أوْ يمنعُهُ».
قوله: «لَأَنْ يَغْدُوَ أحدُكم» اللام في «لأن» لام القسم، والحلف هو لتقوية الكلام وتأكيده. والغدو هو الخروج أول النهار، أي: والله لَأَنْ يَسِيرَ أحدُكم في أوَّلِ النَّهارِ، وَأَكْثَرُ الحَطَّابِينَ وأصحاب المِهن والحِرف يَخرجون في هذا الوقتِ. وكان جمع الحطب مصدرًا لرزق الناس في ذلك الوقت.
قوله: «فَيَحْطِبَ»
أي: يَجْمَعَ الحَطَبَ من الصحاري والجبال ونحوها. «على ظَهْرِهِ»، أي: حاملًا له على ظَهْرِهِ، كما صرَّح به في رواية البخاري. «فَيَتَصَدَّقَ به، ويَسْتَغْنِيَ به»، أي: فيتصدَّق به على نفسه وعلى أهله وولده وعلى غيرهم من الناس، ويستغني بما حَصَّلَهُ مِنَ الاحْتِطَابِ، وإنْ كان في ذلك مَشَقَّةٌ.
فهو «خيرٌ له»
أي: أَشْرَفُ وأعزُّ وأَكْرَمُ، وأَرْحَمُ له «مِنْ أن يَسألَ رجُلًا» بأنْ يَمُدَّ يَدَهُ لِغَيْرِهِ، ويسأله ويطلب حاجته. «أعطاهُ أو مَنَعَهُ»، أي: سواءٌ العطاءُ والمَنْعُ؛ فكِلاهما مُذِلٌّ، فإنْ مَنَعَهُ فَقَدْ كَسَرَ نَفْسَه وأَحْزنه، وإنْ أعطاه فَقَدْ مَنَّ عليه وتفضل، فإن قلت: لا خير في السؤال، فلماذا قال: «خيرٌ له»؟ فالجواب: أن السؤال خير له من الموت جوعاً، إذا لم يجد شيئاً.
ثانيهما: أن هذه الصيغة وهي «خير»، قد تستعمل في غير الترجيح، كما في قوله -تعالى-: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} (الفرقان: 24).
قوله: «اليدُ العُلْيَا» هي المُنْفِقَةُ، «خيرٌ مِنَ اليدِ السُّفْلَى»، أي: السَّائِلةِ.
قولِه: «وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»، أي: وابدأْ بمَنْ يجبُ عليك نفقتُهُمْ، من زوجةٍ وولد، ووالد وأخ وأخت، وما يحتاجون إليه من أمورِ الحياةِ، مِنْ قُوتٍ، وسَكَنٍ، ومَلْبَسٍ. وهو توجّيهُ إلى فِقهِ الأولويات في النَّفقةِ، وهو ما يغيب عن كثير من الناس.
فوائد الحديث
في الحديثِ فوائد منها:
- الحثُّ على الأكْلِ من عَمَلِ اليَدِ، والاكتسابِ بالمِهن والحِرف المُباحة، كالاحتطَابِ وغيرِه.
- وفيه: أنَّ النَّفقةَ على الأهلِ ومَن تَجِبُ نَفقتُهم مُقَدَّمَةٌ على غيرِهم، والحثُّ على الصَّدقةِ عليهم وعلى غيرهم.
- وفيه: أنَّ أَفْضَلُ ما يأكُلُهُ الإنسانُ ما كان مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، ومَهْمَا كان العملُ شاقًّا فإنَّ ذلك أَفْضَلُ من سُؤالِ النَّاسِ، وانتظارِ مِنَنِهِم.
قال في (طرح التثريب): فيه ترجيح الاكتساب على السؤال، ولو كان بعملٍ شاق كالاحْتطاب، ولو لم يقدر على بهيمة يحمل الحطب عليها، بل حمله على ظهره. وذكر ابن عبد البر: عن عمر - رضي الله عنه - قال: مَكسبةٌ فيها بعضُ الدناءة، خيرٌ من مسألة الناس.
فضيلة الاكتساب بعمل اليد
- وفيه: فضيلة الاكتساب بعمل اليد، وقد ذكر بعضهم أنه أفضل المكاسب، فاكتساب المرء من عمل يده؛ خيرٌ له له من أن يسأل الناس أموالهم: أعطوه أو مَنَعُوه، فالذي يأخذ حَبَلَه ويخرج إلى المراعي والمزارع، والغابات، فيجمع الحطب ويحمله على ظهره ويبيعه؛ فيحفظ بذلك على نفسه كرامتها وعزتها، ويقي وجهه ذلة المسألة، خيرٌ له من أنْ يسأل الناس أعطوه أو مَنَعُوه.
والأكل من عمل اليد، والتعفف عن السؤال، والاكتساب والاتَّجار، أرشد إليه القرآن، كما في قول الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15)، أي: في أنحائها، {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}؛ أي: ابتغوا الرزق من فضل الله -عز وجل.
وقال الله -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10)، فقال: انتشروا في الأرض، وابتغوا منْ فضل الله، ولكن لا ينسينك ابتغاؤك من فضل الله ذِكر ربك؛ ولهذا قال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقال -تعالى-: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } (المزمل: 20).
وثبت في صحيح البخاري: أن داود -عليه السلام- كان يأكل مِنْ كسب يديه. وكان داود يَصنع الدروع، كما قال الله -تعالى-: {وعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (الأنبياء: 80)، فكان حدادًا. وكان زكريا -عليه السلام- نجارًا يعمل وينشر ويأخذ الأجرة على ذلك، وهذا يدل على أنَّ العمل والمهنة ليست نقصًا؛ لأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يُمارسونها، ولا شك أنَّ هذا خير من سؤال الناس والحاجة لهم.
- وفيه حَضُّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - على العِفَّةِ وطلب العزَّة بالعمل، والاعتماد على النفس بعد الله -تعالى-، فسؤالُ الناس مذلَّة، والمؤمن عزيزٌ كريم غير ذليل.
- وفيه أن في الاكتساب فائدتين: حصول الكفاية، والاستغناء عن السؤال، والتَّصدق على الآخرين.
- واختلف العلماء في أفضل المكاسب، فقال الماوردي: أصُول المكاسب: الزراعة والتجارة والصنعة، وأيُّها أطيب؟ فيه مذاهب للناس، أشبهها بمذهب الشافعي: أنَّ التجارة أطيب. قال: والأشبه عندي، أنَّ الزراعة أطْيب؛ لأنها أقرب إلى التوكل.
الصواب هو عمل اليد
وقال النووي في شرح المهذب: في صحيح البخاري: عن المقدام بن معدي كرب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أكلَ أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده». قال النووي فالصواب: ما نصَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عمل اليد، فإن كان زراعا فهو أطيب المكاسب وأفضلها؛ لأنه عمل يده، ولأنَّ فيه توكلاً كما ذكره الماوردي، ولأن فيه نفعاً عاماً للمسلمين والدواب، وأنه لا بدَّ في العادة أن يؤكل منه بغير عوض؛ فيحصل له أجره، وإنْ لم يكن ممن يعمل بيده بل يعمل له غلمانه وأجراؤه، فاكتسابه بالزراعة أفضل لما ذكرناه. وقال في الروضة بعد ذكره الحديث المتقدم: فهذا صريحٌ في ترجيح الزراعة والصناعة؛ لكونهما من عملِ يده، ولكن الزراعة أفضلهما؛ لعموم النفع بها للآدمي وغيره، وعموم الحاجة إليها، والله أعلم.
تفضيل الاحتطاب على السؤال
وحديث الباب فيه تفضيل الاحتطاب على السؤال، وليس فيه أنه أفضل المكاسب، فلعله ذكره - صلى الله عليه وسلم - لتيسره على الناس، ولا سيما في بلاد الحجاز؛ لكثرة ذلك فيها.
- وفيه: جواز الاكتساب بالمباحات كالحطب والحشيش النابتين في موات. واستدلَّ به المهلب على الاحتطاب والاحتشاش من الأرض المملوكة، حتى يمنع من ذلك مالك الأرض، فترفع حينئذ الإباحة، وهو مردود؛ فإنَّ النابتَ في الأرض المملوكة مُلكٌ لمالكها، فلا يجوز التَّصرف فيه بغير إذنه.
لاتوجد تعليقات