شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: في قوله -تعالى-: {يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ}
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَال: أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ؛ قَال: كُنَّا نُحَامِلُ، قَال: فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ. قَال: وجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ منه، فَقَال الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، وما فَعَلَ هَذَا الْآخَرُ إِلَّا رِيَاءً، فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}. (التوبة: 79).
الشرح:
الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/706) باب: الحملُ أجرة يتصدّق بها، والنَّهي الشَّديد عن تنقيص المتصدِّق بقليل.
والحديث أخرجه البخاري في التفسير (4391) باب قوله: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} يلمزون: يَعيبون، وجَهْدهم: طاقتهم.
أبو مسعود البدري هو صحابي واسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة بن عسيرة، الأنصاري. ممن شهد بيعة العقبة الثانية، ولم يشهد غزوة بدر، وشهد غزوة أُحد وما بعدها من المشاهد، روى أحاديث كثيرة، وهو معدود في علماء الصحابة، ونزل الكوفة، وسكن بها، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، واسْتخلفه عليٌ على الكوفة لما سار إلى معركة صفين. قال خليفة: مات أبو مسعود قبل الأربعين. وقال ابن قانع: سنة تسع وثلاثين.
حمل متاع الناس
قوله: «أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ»، وفي رواية البخاري: «لما نَزَلت آية الصَّدقة « لعله يريد قوله تبارك و-تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وصلِّ عليهم إنَّ صلاتك سَكنٌ لهم} التوبة:103، فهي آية الصدقة.
قوله: «كنا نُحامل على ظُهُورنا»، يعني: أنَّهم كانوا لا يَجدون شيئاً يتصدَّقون به، فكان الواحد منهم يذهب إلى السُّوق فيحمل المتاع للناس، من أجل أنْ يجد شيئاً يتصدَّق به.
يعني: يُكرون أنفسهم، فيعمل حمّالاً من أجل أنْ يتصدق، لشدة رغبتهم في الخير وفي ما عند الله -تعالى.
- قوله: «فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ» عقيل بفتح أوله، واسم أبي عقيل هذا هو: حبحاب بمهملتين، ورد ذِكْر اسمه فيما رواه عبد بن حميد والطبري وابن منده: من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال في قوله -تعالى-: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) التوبة: 79. قال: «جاء رجلٌ من الأنصار يقال له: الحبحاب أبو عقيل، فقال: يا نبي الله، بتُّ أجرُّ الجَرير على صاعين من تمر، فأمَّا صاعٌ فأمسكته لأهلي، وأما صاعٌ فها هو ذا. فقال المنافقون: إنْ كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل، فنزلت «. قال الحافظ: وهذا مرسل.
أي: إنه قد آجر نفسه في اسْتخراج الدِّلاء من البئر؛ على صاعين من تمرٍ، فذهب بصاعٍ إلى أهله، وتصدق بصاع، فلما جاء بهذا الصاع قالوا: إنّ الله لغنيٌ عن صاع هذا.
من صفات المنافقين
وهذه مِنْ صفات المنافقين: أنّه لا يَسلم أحدٌ من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، فالمتصدقون لا يسلمون منهم، فإنْ جاء أحدٌ منهم بمال جزيل، قالوا: هذا رياء وسُمعة، وإنْ جاء بشيءٍ يسير، قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا.
فهؤلاء لمزوهم، أي: أنهم عابوهم وانتقصوهم، وطعنوا في نياتهم وإخلاصهم، أو ذموا عملهم هذا الذي جاؤوا به، تارة من جهة القصد والنية: هذا مُراءٍ، وتارة من جهة احتقار العمل: إن الله غني عن هذا وعن صدقته.
قوله: «فجاء رجلٌ فتصدَّق بشيءٍ كثير»، قيل: هذا الرجل هو عبد الرحمن بن عوف، وكان من أغنياء الصحابة، جاء فتصدق بشيءٍ كثير.
«فقالوا: مُراءٍ» يعني: قال المنافقون: إنه يقصد بذلك الرياء، وهؤلاء هم الذين ذكر الله -تعالى- على سبيل الذم: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ} التوبة: 79.
حث الرسول على الصدقة
- وروى الحافظ أبو بكر البزار: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تصدقوا فإني أُريدُ أنْ أبْعثَ بعثا. قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف، ألفين أُقْرضْهما ربي، وألفين لعيالي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بارك الله لك فيما أعطيتَ، وبارك لك فيما أمسكت». وبات رجلٌ من الأنصار فأصاب صَاعين من تمر، فقال: يا رسولَ الله، أصبتُ صاعين من تمر: صاعٌ أقرضه لربِّي، وصاع لعيالي. قال: فلمَزه المُنافقون، وقالوا: ما أَعْطى الذي أَعْطى ابنُ عوف؛ إلا رياءً! وقالوا: ألمْ يكنْ اللهُ ورسوله غَنيين عنْ صاع هذا؟ فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} الآية.
فهم كانوا إذا جاءَ الإنسان بصدقة كثيرة قالوا: مُراءٍ، وإذا جاء بشيء قليل قالوا: إن الله لغني عن هذا، وعن صدقته القليلة.
فلا يسلم منهم أحدٌ، وقد ذُكر في السيرة من هؤلاء المنافقين: مُعَتّب بن قُشير، وطائفة منْ أصْحابه، ليس لهم شَغلٌ إلا هذا، الطعن والهَمْز واللمز بالمؤمنين، وهو حالهم في كلِّ زمانٍ ومكان.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهبٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً. وقالوا: إنْ كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصَّاع.
من مخازي المنافقين
- قال الشيخ السعدي في تفسير الآية: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ} التوبة: 79. وهذا أيضًا من مخازي المنافقين، فكانواـ قبحهم اللّه لا يَدَعُون شيئا مِنْ أمور الإسْلام والمسلمين يرون لهم مقالا، إلا قالوا وطَعَنوا بغياً وعدوانا، فلما حثَّ اللّه ورسوله على الصدقة، بادر المسلمون إلى ذلك، وبذلوا منْ أموالهم كلٌ على حسب حاله، منْهم المُكْثر، ومنهم المقل، فيَلْمزون المُكثر منهم، بأنْ قصده بنفقته الرياء والسمعة، وقالوا للمقلِّ الفقير: إنَّ اللّه غني عن صدقة هذا، فأنزل اللّه -تعالى-: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} أي: يَعيبُون ويَطْعنون {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} فيقولون: مُرَاءون، قصْدُهم الفخر والرياء.
(و) يلمزون {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} فيخرجون ما استطاعوا، ويقولون: اللّه غني عن صدقاتهم (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ). فقابلهم الله على صنيعهم بأنْ {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فإنهم جمعوا في كلامهم هذا؛ بين عدة محاذير:
منها: تتبعهم لأحوال المؤمنين، وحرصهم على أنْ يجدوا مقالاً يقولونه فيهم، واللّه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ومنها: طعنهم بالمؤمنين لأجْل إيمانهم، كفر باللّه -تعالى-، وبغض للدين.
ومنها: أنَّ اللمز مُحرَّم، بل هو من كبائر الذنوب في أُمور الدنيا، وأما اللمز في أمر الطاعة، فأقْبح وأقبح.
ومنها: أنَّ مَنْ أطاعَ اللّهَ؛ وتطوَّع بخَصلةٍ منْ خِصَالِ الخير، فإنَّ الذي ينبغي هو: إعانتُه، وتنْشيطه على عمله، وهؤلاء قَصَدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم، وعابوهم عليه.
ومنها: أنَّ حكمهم على مَنْ أنفق مالاً كثيراً بأنه مُراء، غلطٌ فاحش، وحُكْمٌ على الغيب، ورجم بالظن، وأيُّ شر أكبر من هذا؟!
ومنها: أنَّ قولَهم لصاحب الصدقة القليلة: «اللّه غنيٌ عنْ صَدقة هذا» كلامٌ مقصوده باطل، فإنَّ اللّه غنيٌ عن صدقةِ المتصدِّق بالقليل والكثير، بل وغنيٌ عن أهل السَّماوات والأرض، ولكنه -تعالى- أَمَرَ العبادَ بما هم مُفتقرون إليه، فاللّه ـ وإنْ كان غنياً عنهم ـ فهم فقراء إليه، {فمنْ يَعْمَلْ مثْقالَ ذرَّةٍ خيراً يره} الزلزلة: 7. وفي هذا القولِ من التثبيط عن الخير؛ ما هو ظاهرٌ بيّن، ولهذا كان جزاؤهم أنْ سخرَ اللّه منهم، ولهم عذابٌ أليم. انتهى
- وهذا لا يختصُّ بأولئك الذين يَلْمزُون هؤلاء المُطَّوعين في الصَّدقات، بل إنه يشمل كلَّ لامزٍ لأهلِ الإيمان، وأهلِ العمل الطيب الصالح، سواء كان ذلك في باب الصلاة، أو الصيام، أو الحج، أو العمرة، أو الذكر، وقراءة القرآن، أو غير ذلك.
ويدخل في هذا كل أولئك الذين يستهزئون بالدين وبأهله، في مقالاتهم أو مسلسلاتهم البائسة أو مجالسهم، التي لم يستحِ أصحابها من الله -تبارك وتعالى- ولم يستحيوا من الناس، فخرجوا بهذه المقالات المؤسفة التي تضرهم في دينهم ودنياهم.
وقد توعَّد الله أولئك المستهزئين، فقال -تبارك وتعالى-: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} التوبة:65-66.
لاتوجد تعليقات