شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: اليد العليا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال- وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ-: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، والْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ». الحديث رواه مسلم في كتاب الزكاة (2/717)، باب: بيان أنَّ اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وأنَّ اليد العليا هي المنفقة، وأن السفلى هي الآخذة.
وأخرجه البخاري، في كتاب الزكاة، (1427) باب: لا صدقةَ إلا عن ظهر غنى.
قوله: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ
- المقصود به: أنَّ يد المعطي أفضل من يد الآخذ. فاليد العليا: هي المُنفقة والمُعْطية، والسُّفلى: هي السَّائلة والآخذة، وهذا التفسير من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، وقد استخلص الحافظ ابن حجر في (الفتح 3:350) منْ صحيح الآثار؛ أنَّ الأيديَ خمسٌ: أعْلاها المنفقةُ، ثمَّ المُتَعفِّفةُ عن الأخْذ، ثمَّ الآخذة بغيرِ سُؤال، وأسْفلها: السَّائلة، والمانعة.
وجاء الحديث من طريق آخر: عن حكيم بن حزام - رضي الل عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ». متفق عليه.
مطلبٌ شرعيٌّ
فالتّعفف عن المسألة، والتّرفُّع عن سؤال النّاس مطلبٌ شرعيٌّ، يؤكّده ويوضّحه النّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - في قوله: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»، ثُمّ فسّره فقال: «وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَة»، ومع أنّ الوصف بالعلوِّ والوصف بالسِّفل كافٍ لمعرفة أنّ هذا خيرٌ من ذاك؛ لأنّ ما يُوصف بالعُلوِّ خيرٌ ممّا يُوصف بالسِّفل، إلا أنّه نصّ على الخيريّة زيادةً في بيان عِظَم شأن الإنفاق وإيضاحه، وكون المُنفق يده خيّرة وعُليا، من علاء المجد والكرم، كما اختاره الخطّابي.
كما في قول الشّاعر:
إذا كان باب الذّل مِنْ جانبِ الغِنَى
سموتُ إلى العلياء من جانبِ الفقر
أي التّرفُّع عن المسألة والتّعفّف عنها
والتّعزّز بترك المسألة والتّنزّه عنها.
الهدايا والعطايا والهبات
ولا يدخل في ذلك ما يُهدى أو يأتي إلى المرء من عطايا أو هبات دون أنْ يسألها أو يطلبها، فعن السَّائب بن يزيد قال: لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عبْدَ الله بنَ السَّعْدِيِّ، فَقال: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِي الْعَمَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تُعْطَى عُمَالَتَكَ فَلَا تَقْبَلُها؟ قَال: إِنِّي بِخَيْرٍ، وَلِي رَقِيقٌ وأَفْرَاسٌ، وَأَنَا غَنِيُّ عنْها، وأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عَمَلِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَال عُمَرُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعْطِينِي الْعَطَايَا؛ فَأَقُولُ: يا نَبِيَّ الله، أَعْطِهِ غَيْرِي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً، فَقُلْتُ: يا نَبِيَّ الله، أَعْطِهِ غَيْرِي، فَقَال: «خُذْهُ يَا عُمَرُ، فَإِمَّا أِنْ تَتَمَوَّلَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَصَدَّقَ بِهِ، وَمَا آتَاكَ الله مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وما لَا؛ فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ». الّلفظ المرفوع متّفقٌ عليه.
عزّة النّفس والرّفعة
فيه: أنَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُربّي أصحابه -رضوان الله عليهم- على عزّة النّفس والرّفعة، والاستغناء عن النّاس، وعدم طلب الحوائج منْ أحد، حتى إنّه بايع بعض أصحابه على الاستغناء عن النّاس، كما في حديث عوف بن مالك الأشجعيّ - رضي الله عنه - قال: كنّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة؛ فقال: «ألا تُبايعون رسول الله؟» وكنّا حديث عهدٍ ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثمّ قال: «ألا تُبايعون رسول الله؟»، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثمّ قال: «ألا تُبايعون رسول الله؟» قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نُبَايعك؟ قال: «على أنْ تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصّلوات الخمس، وتطيعوا- وأَسَرَّ كلمةً خفية- ولا تَسألوا النّاس شيئًا»، فلقد رأيتُ بعض أولئك النّفر يَسْقطُ سوطُ أحدهم؛ فما يسأل أحدًا يناوله إيّاه». رواه مسلم.
الثقة بالله -تعالى- والالْتجاء إليه
تمر بالمُسلم أزماتٌ، وتَضيق عليه الدنيا، ولكن مع الثقة بالله -تعالى-، والالْتجاء إليه، تتّسع حتى تكون أوسع من كل شيء، فمن عاش مع الله نَسِيَ همومَ الدنيا كلّها، ومن توكل على الله -تعالى- كفاه، فهو -جل وعلا- المدبِّر للكون، وهو عالِمٌ بحاجته وفاقته، ومن استغنى بالله أغناه الله، ومن استعفَّ بالله أعفَّه اللهُ، ولكن الكثير من الناس -مع الأسف- إذا نزلت به الفاقة، أنزلها بالناس، وفتح على نفسه بابَ مسألة، ومثله لا تُغلق عنه المَسألة، ولا تُرفع عنه الفاقة، إلا أنْ يشاء الله -تعالى.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أصابَتْه فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تُسَدَّ فاقتُه، ومَن أنزلها بالله فيُوشِكُ اللهُ له برزقٍ عاجِلٍ أو آجِلٍ». أخرج الترمذي في سننه، وفي حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن تكفَّل لي ألَّا يسألَ الناسَ شيئًا وأتكفل له بالجنة؟» فقلت: أنا. فكان لا يسأل أحدا شيئا. أخرجه أبو داود في سننه.
جواز المسألة عند الحاجة
والمسألة عند الحاجة جائزةٌ شَرْعًا، بل جعل الله من جملة أهل الزكاة: الفقراء والمساكين، غيرَ أنَّ التعففَ خيرٌ؛ كما سبق، وجاء أنها لا تحل إلا لثلاثة، كما أخرج مسلم في صحيحه: من حديث أبي بشر قبيصة بن المخارق - رضي الله عنه - قال: تحملتُ حمالةً فأتيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: «أقمْ حتى تأتينا الصَّدقةُ فنأمر لكَ بها»، ثم قال: «يا قَبِيصَةُ، إنَّ المسألةَ لا تَحِلُّ إلا لأحدِ ثلاثةٍ: رَجُلٍ تحمَّل حَمالةً؛ فحَلَّتْ له المسألةُ حتى يُصِيبَها؛ ثم يُمسكَ، ورَجُلٍ أصَابته جائحةٌ اجْتَاحَتْ مالَه؛ فحَلَّتْ له المسألةُ حتى يُصيبَ قِوامًا مِن عَيشٍ، أو قال: سِدادًا مِن عَيشٍ، ورَجُلٍ أصابته فاقةٌ حتى يقولَ ثلاثةٌ مِن ذَوِي الحِجَى من قومه: لقد أصَابت فلانًا فاقةٌ؛ فحَلَّتْ له المسألةُ حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سِداداً منْ عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة، سُحت يأكلها صاحبها سحتا».
والحمالة: بفتح الحاء: أن يقع قتال ونحوه بين فريقين؛ فيُصلح إنسانٌ بينهم على مالِ يتحمَّله ويلتزمه على نفسه.
والجائحة: الآفة تُصِيبُ مالَ الإنسانِ.
لاتوجد تعليقات