شرح كتاب الرضاع من مختصر مسلم – باب: يَحْرمُ مِنَ
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَهَا، وإِنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُرَاهُ فُلَاناً» لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا- لِعَمِّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ- دَخَلَ عَلَيَّ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ»؛ هذا كتاب الرّضاع مِنْ مختصر مسْلم، للحافظ المنذري، وهو يتضمن الأحاديث التي في الأحْكام الشرعية للرضاع.
والأصْل في التَّحريم بالرّضاع: الكتاب والسنة والإجْماع، أما الكتاب: ففي قول الله -تعالى-: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} النساء: 23. فذكر الله سبحانه الأم من الرضاع والأخت، في جُمْلة المحرّمات من النساء على الرجل.
وأمّا السُّنّة النَّبوية: ففي أخبارٌ كثيرة، سيذكر المصنّف أكثرها إنْ شاء الله -تعالى- في هذا الكتاب، ومنه ما روت عائشة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الرّضاعة تُحرّم ما تُحرّم الولادة». متفق عليه
وفي لفظ: «يَحْرم مِنَ الرَّضَاع ما يَحْرم مِنَ النّسب». رواه النسائي.
إجماع علماء الأمة على التَّحريم بالرَّضاع
وأجمَعَ علماء الأمّة على التَّحريم بالرَّضاع، إذا ثبتَ، فإنّ تحْريمَ الأم والأخت ثبتَ بنصّ الكتاب، وتحريم البنت ثبتَ بالتَّنبيه، فإنه إذا حَرُمت الأخت؛ فالبنت أولى، وسائر المُحرّمات ثبتَ تحريمهنّ بالسُّنّة النّبويّة، والمَحرميّة تثبت؛ لأنّها فرعٌ على التحريم إذا كان بسببٍ مباح، فأمّا بقية الأحكام المترتبة على النَّسب؛ منَ النّفقة، والميراث، والولاية، والعِتق، وردّ الشّهادة، والعقل، وغير ذلك، فلا يتعلّق به؛ لأنَّ النَّسبَ أقوى منه، فلا يُقاسُ عليه في جميعِ أحكامه، وإنّما يُشبّه به فيما نصّ عليه فيه فقط.
الحديث الأول
أمّا الحديث الأول المَذْكور في الباب: فرواه مسلم في الرّضاعة (1068) باب: يَحْرمُ مِن الرّضاعة ما يَحرم مِنَ الوِلادة، ورواه البخاري في النكاح (5099) باب: {وأمَّهاتكم اللاتي أرْضَعْنكم} ويَحْرم مِنَ الرّضاع ما يَحرُم من النّسب. فهو متفق عليه.
وفي هذا الحَديثِ: تخبرُ أمُّ المؤمنين عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان عِنْدَها في بَيتِها وحُجرتِها، فَسَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَستَأذِنُ في بَيْتِ حَفْصةَ -رضي الله عنها-، أي: يَطلُبُ الإذْنَ بالدُّخولِ إلى بَيْتِ حَفْصةَ -رضي الله عنها-، وكانت حُجُراتُ أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُتَجاوراتٍ.
فقالَتْ: «يا رَسولَ اللهِ، سَمِعْتُ صَوْتَ رَجُلٍ يَستأذِنُ في بَيْتِ حَفْصةَ، فأخبرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يظُنُّه فُلانًا، الَّذي هو عَمُّ حَفْصةَ مِن الرَّضاعةِ، ولم يُعْرف اسْمه، قاله الحافظ ابن حجر.
فقالتْ عائِشةُ -رضي الله عنها-: لَو كانَ فُلانٌ حَيّاً -لِعَمِّها مِن الرَّضاعةِ- لَجازَ له الدُّخولُ عَلَيَّ؟ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ»؛ وذلك لأنّ الرَّضاعةُ تُحَرِّمُ ما تُحرِّمُ الوِلادةُ، فكلُّ ما ورَدَ تَحريمُه مِن النَّسَبِ، فإنَّه يَحرُمُ مِن الرَّضاعِ أيضاً، وكما أنَّ العَمَّ يَحرُمُ منَ النَّسَبِ؛ فإنَّه أيضاً يحرُمُ مِنَ الرَّضاعِ.
قوله: «فقالت عائشة: يا رسُولَ الله، لو كان فلان حيّاً لعمّها مِنَ الرّضاعة، ودَخل عليَّ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم، إنّ الرّضاعة تحرّم ما تحرم الولادة».
الرَّضاع ينْشر الحُرْمة
قال القرطبي: «في الحديث دلالة على أنَّ الرَّضاع ينْشر الحُرْمة بين الرّضيع والمُرْضعة وزوجها، يعني الذي وقع الإرْضاع بلبن ولده منْها أو السيد، فتَحْرم على الصّبي؛ لأنّها تصير أمّه وأمّها؛ لأنّها جدّته فصَاعداً، وأختها لأنّها خالته، وينتهي لأنها أخته، وبنت بنتها فنازلاً؛ لأنّها بنت أخته، وبنت صاحب اللّبن لأنّها أخْته، وبنت بنته فنازلاً؛ لأنّها بنت أخته، وأمّه فصاعداً لأنّها جدّته، وأخته لأنّها عمّته، ولا يتعدّى التَّحريم إلى أحدٍ مِنْ قَرَابة الرضيع، فليست أخته مِنَ الرّضاعة أختاً لأخيه، ولا بنتاً لأبيه؛ إذْ لا رَضاعَ بينهم، والحِكْمة في ذلك: أنّ سبب التَّحريم ما ينفصل مِنْ أجْزاء المَرأة وزوجها، وهو اللّبن، فإذا اكتفى به الرضيع صارَ جُزءاً مِنْ أجْزائهما، فانْتَشرَ التحْريم بينهم، بخلاف قرابات الرَّضيع؛ لأنَّه ليس بينهم وبين المُرضعة ولا زوجها نَسَبٌ ولا سَبَب». (الفتح: 9/141).
المحرمات من النَّسَب
ولنذكر المحرمات من النَّسَب كلهنَّ: حتى يعلم بذلك ما يَحرم من الرضاع، فنقول: الولادة والنَّسب يؤثران في التحريم في النكاح، فإنّ مِنَ النساء مَنْ يحرمن على الرجل تحريمًا مُؤبّدًا، ومنهنّ مَنْ يَحْرمن عليه تحريماً مؤقتاً لسبب، إذا زال، جاز له نكاحها.
والمحرمات تحريمًا مؤبداً، قد جمعتهن آية، وحديث: «يحرُم مِنَ الرضاع ما يَحْرم بالنسب». فأمّا الآية فقال -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} النساء:23.
ما يَحلّ وما يَحْرم مِنَ النساء
فبيّن -جلّ وعلا- ما يَحلّ، وما يَحْرم مِنَ النساء، فحرّم سَبْعاً بالنّسب، وهنّ:
- الأمّهات: ويَدخل فيهنّ الجدّات، وإنْ عَلَون من قبل الأمّ أو الأب.
- والبنات: ويدخل فيهنّ بناتُ البنات، وبنات الأولاد، وإنْ سَفلن.
- والأخوات: سواء أكنّ من قبل الأب والأم، أو من قبل أحدهما.
- والعمّات: ويدخل فيهنّ جميع أخوات الأب الشقيقات وغير الشقيقات، وكذلك جميع أخوات أجدادك، وإنْ علون.
- والخالات: ويدخل فيهنّ جميع أخوات الأم الشقيقات، وغيرهنّ، وكذلك جميع أخوات الجدات، وإن علون، سواء أكنّ جدات من الأب أم من الأم.
- وبنات الأخ، وبنات الأخت، ويدخل فيهنّ بناتهنّ، وإن سفلن.
- وجملة ذلك: أنه يحرم على الرجل أصوله، وفروعه، وفروع أول أصوله، وأول فرع من كل أصل بعده.
- فالأصول هنّ: الأمّهات، والجدات.
- والفروع هنّ: البنات، وبنات الأولاد.
- وفروع أول أُصُوله، هنّ: الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأخوات.
- وأول فرعٍ مِنْ كلّ أصلٍ بعده، هنّ: العمّات، والخالات، وإنْ علون.
وحرّم كذلك سبعًا بالسبب: اثنتين بالرضاع، وأربعاً بالمُصاهرة، والسابعة المُحْصنات، وهنّ ذوات الأزواج.
فوائد الحديث
- جعَلَ الإسْلامُ الرَّضاعَ رابطًا كَرابطِ النَّسبِ، فأثبَتَ الحُرْمةَ مِن الرَّضاعةِ كالحُرمةِ مِن النَّسَبِ؛ وعليه فيجوز للمرأةِ أن يدخُلَ عليها مِنَ الرِّجالِ الذين ثبتَ له حُكمُ الرَّضاعِ، كالأخِ والعَمِّ ونحوِهما، وقد أجْمع العُلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجُملة، وأنّ الرّضاع يُحرّم ما يحرّمه النسب.
- مشروعيَّةُ النَّظَرِ والخَلوةِ والمُسافَرةِ مع المَحْرم مِنَ الرَّضاع، ولكن لا يترتَّبُ عليه باقي أحكامِ النَّسَبِ مِنَ التوارُثِ، ووجوبِ الإنفاقِ، والعِتقِ بالمِلْكِ، والشَّهادةِ، والعَقلِ، وإسقاطِ القِصاصِ كما سبق.
لاتوجد تعليقات