شرح كتاب الرضاع من مختصر مسلم – باب: تحريم الرّبيب
عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ لَه: هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ؟ فَقَال: «أَفْعَلُ مَاذَا؟» قُلْتُ: تَنْكِحُها، قَال: «أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكِ؟» قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي، قَال: «فإِنَّها لَا تَحِلُّ لِي» قُلْتُ: فَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَال: «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَال: «لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي؛ ما حَلَّتْ لِي، إِنَّها ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، ولَا أَخَوَاتِكُنَّ». الحديث رواه مسلم في الرضاع (2/1072) باب: تحريمُ الرّبيبة وأخت المرأة، وأخرجه البخاري في الباب السابق، وراوي الحديث: هي أمُّ المؤمنين أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي الله عنها-، زوج النّبي - صلى الله عليه وسلم .
قولها: «هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ؟» وفي رواية يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عند مسلم والنسائي: «انْكح أخْتي عزَّة بنت أبي سفيان». ووقع في رواية الحميدي في مسنده: «درّة»، وأخرجه كذلك أبو نعيم والبيهقي من طريق الحميدي، وجزم المنذري بأنّ اسمها «حَمْنة» كما في الطبراني. وقال عياض: لا نعلم لعزّة ذِكراً في بنات أبي سفيان، إلا في رواية يزيد بن أبي حبيب. وقال أبو موسى: الأشْهر فيها عزّة.
قوله: «فقال: فأفْعلُ ماذا؟»
أي: ماذا أفعل لها؟ وفيه شاهدٌ على جوازِ تقديم الفعل على «ما» الاسْتفهامية، خلافاً لمَنْ أنْكره مِنَ النُّحاة، وقولها: «قُلْتُ: تَنْكِحُها» أي: تتزوجها، وقوله: «أو تُحِبّين ذلك؟» هو استفهام تعجّب مِنْ كونها تَطْلب أنْ يتزوج غيرها، مع ما طُبِع عليه النساء مِنَ الغَيْرة.
قولها: «لستُ لك بمخلية»
بضم الميم وسكون المعجمة وكسر اللام، اسم فاعل مِنْ أخْلى يُخْلي، أي: لستُ بمنفردة بك، ولا خالية مِنْ ضَرّة. وقال بعضهم: هو بوزن فاعل الإخلاء، مُتعدياً ولازماً، مِنْ أخليت بمعنى خلوتُ مِنَ الضَّرة، أي: لست بمتفرغة ولا خالية مِنْ ضرة. وفي بعض الروايات: بفتح اللام بلفظ المفعول، حكاها الكرماني، وقال عياض: مُخْلية، أي: منفردة، يقال: أخل أمرك وأخل به، أي انفرد به. وقال صاحب النهاية: معناه لمْ أجِدْك خالياً مِنَ الزَّوجات، وليس هو من قولهم: امرأة مخلية، إذا خلتْ مِنَ الأزواج، وقولها: «وأحبّ مَنْ شَرَكني» مرفوع بالابتداء، أي إليّ، وفي رواية البخاري: «مَنْ شَاركني».
قولها: «في خَير» كذا للأكثر بالتّنكير، أي: أيُّ خيرٍ كان، وفي رواية البخاري: «في الخَير». قيل: المُراد به صُحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المُتضَمّنة لسَعادةِ الدَّارين، السّاترة لمَا لعلّه يَعْرض مِنَ الغَيْرة التي جَرَت بها العَادة بين الزوجات، وفي رواية: «وأحبّ مَنْ شَرَكني فيك أخْتي» فعُرِفَ أنَّ المُراد بالخير: ذاته - صلى الله عليه وسلم .
قوله: «فإِنَّها لَا تَحِلُّ لِي»
لأنّها أختُ زوجته - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال -تعالى في المُحرّمات مِنَ النساء-: {وأنْ تَجْمعوا بين الأختين} (النساء: 23)، قال الحافط: وكأنَّ أمّ حبيبة لمْ تطّلع على تحريم ذلك، إمَّا لأنّ ذلك كان قبلَ نُزول آية التّحريم، وإمّا بعد ذلك وظنَّت أنّه مِنْ خصائص النّبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا قال الكرماني، والاحتمال الثاني هو المعتمد، والأول يدفعه سياق الحديث، وكأنّ أمّ حبيبة استدلت على جواز الجمع بين الأختين، بجواز الجمع بين المرأة وابنتها بطريق الأولى، لأنَّ الرَّبيبة حرّمت على التأبيد، والأخت حُرّمت في صُورة الجمع فقط، فأجابَها - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ ذلك لا يَحلّ، وأنَّ الذي بَلَغها مِنْ ذلك ليس بحقّ، وأنَّها تَحْرُم عليه مِنْ جهتين.
قولها: «قُلْتُ: فَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ» دُرّة وهي بضم المهملة وتشديد الراء، «فإنّا نُحدّث» بضم أوله وفتح الحاء على البناء للمَجهول، وفي رواية للبخاري: «قلتُ بلغني» وفي رواية له أيضاً في الباب الذي بعده: «قلتُ يا رسول الله، فوالله إنَّا لنَتحدَّث». قال الحافظ: ولمْ أقف على اسْم مَنْ أخْبر بذلك، ولعله كان مِنَ المنافقين، فإنه قد ظَهَر أنَّ الخَبَر لا أصْلَ له، وهذا ممَّا يُسْتدلُّ به على ضَعف المراسيل.
قوله: «لو أنّها لمْ تكن ربيبتي في حِجْري ما حلت لي»
قال القرطبي: فيه تعليلُ الحُكم بعلتين، فإنّه علّل تحْريمها بكونها ربيبة؛ وبكونها بنتُ أخٍ مِنَ الرّضاعة، قال الحافظ: كذا قال، والذي يظهر أنَّه نبّه على أنّها لو كان بها مانع واحد؛ لكفَى في التّحْريم، فكيفَ وبها مانعان؟ فليس مِنَ التّعليل بعلتين في شيء، لأنّ كلّ وصفين يجوز أنْ يُضاف الحكم إلى كل منْهما لو انفرد، فإمّا أنْ يَتَعاقبا فيضاف الحكم إلى الأول منهما، كما في السببين إذا اجتمعا، ومثاله: لو أحْدث ثمّ أحدث، بغير تخلّل طهارة، فالحدث الثاني لم يعمل شيئاً، أو يضاف الحكم إلى الثاني، كما في اجتماع السبب والمباشرة، وقد يضاف إلى أشْبَههما وأنْسَبهما، سواءً كان الأول أم الثاني، فعلى كلّ تقديرٍ لا يُضاف إليهما جميعاً، وإنْ قُدّر أنه يوجد؛ فالإضافة إلى المجموع، ويكون كلّ منْهما جزء علّة، لا علة مستقلة، فلا تَجْتمع علتان على معلولٍ واحد، هذا الذي يظهر، والمسألة مشهورة في الأصول وفيها خلاف. قال القرطبي: والصحيح جوازه لهذا الحديث وغيره.
وفي الحديث: إشارة إلى أنّ التّحريم بالرَّبيبة أشدّ مِنَ التَّحريم بالرَّضاعة.
وقوله «رَبيبتي» أي: بنت زوجتي، مُشتقة من الرّب وهو الإصْلاح لأنّه يقوم بأمْرها.
وقوله: «في حِجْري» راعى فيه لفظ الآية، وإلا فلا مَفهوم له، كذا عند الجُمهور، وأنَّه خَرج مَخْرج الغالب، فإنّ بنت الزوجة مُحرّمة على الإطْلاق، ولو لم تكنْ في حِجر زوج أمّها.
قوله: «أرْضعتني وأبا سلمة»
أي: أرْضعتني وأرضعت أبا سلمة أيضاً، وهو من تقديم المفعول على الفاعل، وقوله: «ثويبة» بمثلثة وموحدة ومصغر، كانت مولاة لأبي لهب بن عبد المطلب عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي في الحديث.
وثويبة ذكرها ابن منده في «الصّحابة» وقال: اختُلف في إسْلامها. وقال أبو نعيم: لا نعلم أحداً ذكر إسْلامها غيره، والذي في السير أنّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُكرمها، وكانت تدخل عليه بعدما تزوّج خديجة، وكان يُرسل إليها الصِّلة من المدينة، إلى أنْ كان بعد فتح خيبر، ماتتْ ومات ابنها مسروح. وقوله: «فلا تَعْرِضْن» بفتح أوله وسكون العين وكسر الراء بعدها معجمة ساكنة ثم نون على الخطاب لجماعة النساء، أو بكسر المعجمة وتشديد النون خطاب لأمّ حبيبة وحدها، والأول أوجه. وقال القرطبي: جاء بلفظ الجمع، وإنْ كانت القصة لاثنين، وهما أمّ حبيبة وأمّ سَلمة ردْعاً وزَجْراً، أنْ تعود واحدة منهما أو غيرهما إلى مثل ذلك، وهذا كما لو رأى رجلٌ امرأةً تكلّم رجلاً، فقال لها: أتكلمين الرجال؟ فإنّه مُسْتعمل شائع، وكان لأمّ سلمة مِنَ الأخْوات قريبة زوج زمعة بن الأسود، وقريبة الصغرى زوج عمر ثم معاوية، وعزّة بنت أبي أمية زوج منبه بن الحجاج، ولها من البنات زينب راوية الخبر، ودرة التي قيل إنها مخطوبة.
وكان لأم حبيبة من الأخوات هند زوج الحارث بن نوفل، وجويرية زوج السائب بن أبي حبيش، وأميمة زوج صفوان بن أمية، وأم الحكم زوج عبد الله بن عثمان، وصخرة زوج سعيد بن الأخنس، وميمونة زوج عروة بن مسعود. ولها من البنات حبيبة، وقد روت عنها الحديث ولها صحبة، وكان لغيرهما من أمهات المؤمنين من الأخوات أم كلثوم وأم حبيبة ابنتا زمعة أختا سودة، وأسماء أخت عائشة، وزينب بنت عمر أخت حفصة وغيرهن، والله أعلم.
إرضاعها للنبي - صلى الله عليه وسلم
وفي البخاري: «وكان أبو لهب أعتقها فأرْضعتْ النبي - صلى الله عليه وسلم » ظاهره أنّ عتقه لها كان قبل إرْضاعها، والذي في السير يخالفه، وهو أن أبا لهب أعتقها قبل الهجرة وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل، وحكى السهيلي أيضا أن عتقها كان قبل الإرْضاع، وسأذكر كلامه.
تخفيف العذاب عن أبي لهب
وفيه أيضاً: «فلمّا ماتَ أبو لهب، أُرِيه بعضُ أهله» بضم الهمزة وكسر الراء وفتح التحتانية على البناء للمجهول. وذكر السهيلي أنّ العباس قال: لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال، فقال: ما لقيتُ بعدكم راحة، إلا أنّ العذاب يُخفّف عني كل يوم اثنين، قال: وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين، وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها.
قال: «بشرّ حيبة» بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة، أي: سوء حال، وقال ابن فارس: أصلها الحُوبة وهي المسكنة والحاجة، فالياء في حيبة منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها. ووقع عند المستملي: بفتح الخاء المعجمة، أي: في حالة خائبة من كل خير. وقال ابن الجوزي: هو تصحيف، وقال القرطبي: يروى بالمعجمة، ووجدته في نسخة معتمدة بكسر المهملة وهو المعروف.
قال له: «ماذا لقيت» أي: بعد الموت، قال أبولهب: «لم ألق بعدكم» كذا في الأصول بحذف المفعول، وفي رواية الإسماعيلي: «لم ألق بعدكم رخاء» وعند عبد الرزاق: «لم ألق بعدكم راحة». قال ابن بطال: سقط المفعول من رواية البخاري، ولا يستقيم الكلام إلا به.
قال: «غير أنِّي سُقيت في هذه» كذا في الأصول بالحذف أيضا، ووقع في رواية عبد الرزاق المذكورة: «وأشار إلى النُّقرة التي تحت إبهامه» وفي رواية الإسماعيلي المذكورة وأشار إلى النُّقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع». وفي ذلك إشارة إلى حقارة ما سقي من الماء.
قوله: «بعتاقتي» بفتح العين، في رواية عبد الرزاق «بعتقي» وهو أوجه، والوجه الأولى أن يقول بإعتاقي؛ لأنّ المراد التخليص من الرق.
الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة
وفي الحديث: دلالة على أنَّ الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، لكنّه مخالف لظاهر القرآن، قال الله -تعالى-: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (الفرقان: 23).
- وأجيب أولاً: بأنّ الخبر مرسل، أرسله عروة ولم يذكر منْ حدّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولا فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حُجّة فيه، ولعل الذي رآها لم يكنْ إذْ ذاك أسلم بعد، فلا يحتج به، وثانياً على تقدير القبول؛ فيحتمل أنْ يكون ما يتعلّق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوصاً مِنْ ذلك، بدليل قصة أبي طالب كما تقدم أنه خفّف عنه فنقل من الغمرات إلى الضحضاح.
وقال البيهقي: ما ورد من بطلان الخير للكفار، فمعناه أنّهم لا يكون لهم التخلص مِنَ النار ولا دخول الجنّة، ويجوز أنْ يُخفّف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه، على ما ارتكبوه من الجرائم -سوى الكفر- بما عملوه من الخيرات.
وأمّا عياض فقال: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها بنعيمٍ ولا تخفيف عذاب، وإنْ كان بعضهم أشدّ عذاباً من بعض. قلت: وهذا لا يردّ الاحتمال الذي ذكره البيهقي؛ فإنّ جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأمّا ذنبٌ غير الكفر، فما المانع من تخفيفه؟ وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا، وبمن ورد النص فيه.
وقال ابن المنير في الحاشية: هنا قضيتان إحداهما محال، وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره؛ لأنّ شرط الطاعة أنْ تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.
الثانية إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلا من الله -تعالى-، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبي طالب، والمتبع في ذلك التوقيف نفياً وإثباتاً.
لاتوجد تعليقات