شرح كتاب الحج من صحيح مسلم .. باب: مَا بَيْنَ القبر وَالمِنْبَرِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ
- للروضة فضيلة ظاهرة تقتضي مِنَ المُسلم الحرص على الجلوس والصلاة فيها غير إنّ الأهم من ذلك تقوى الله تعالى
- الروضة الشريفة تشْبه روضات الجنات في حصول السعادة والطمأنينة لمَنْ يجلس فيها
عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي». رواه مسلم في الحج (2/1010)، وبوّب عليه النووي بمثل تبويب المنذري. ورواه البخاري في مواضع أولها في: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1196) باب: فضل ما بين القبر والمنبر. وهذا الحديث من الأحاديث المتواترة، التي جاءت مِنْ طُرقٍ كثيرة.
شرف المكان
في هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شرَفِ هذه البُقعةِ المبارَكةِ الَّتي تقَعُ بيْن بَيتِه - صلى الله عليه وسلم - ومِنبَرِه الذي في مَسجِدِه، وأنَّها رَوْضةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ. والرَّوضةُ: هي كلُّ أرضٍ ذاتِ نَباتٍ وماءٍ ورَوْنقٍ ونَضارةٍ. أي: هي في نُزولِ الرَّحمةِ وحُصولِ السَّعادةِ، بما يَحصُلُ مِن مُلازَمةِ حِلَقِ الذِّكرِ، والصَّلاةِ في هذا الموضِعِ، لا سيَّما في عَهْدِه - صلى الله عليه وسلم -، روضة من رياض الجنّة، فيكونُ تَشبيهًا بغيرِ أداةٍ. أو المعْنى: أنَّ ذلك الموضعَ بعينِه، هو رَوضةٌ مِن رِياضِ الجنَّةِ حَقيقةً، وهو قِطعةٌ منها، كالحَجَرِ الأسودِ، فتُنقَلُ إليها يومَ القيامةِ. ويُؤيِّدُ هذا المعْنى: قولُه في آخِرِ الحَديثِ: «ومِنبَري على حَوضي» أي: ويقَعُ مِنبَرُه الشَّريفُ، على مَوضعِ حَوضِه المَورودِ الَّذي يُكرِمُه اللهُ به يومَ القِيامةِ، أو أنَّ له هناك مِنبراً سيكون على حَوضِه الذي يَدْعو النَّاسَ إليه.روضة من رياض الجنة
قال النووي -رحمه الله-: «ذكروا في معناه قولين:- أحدهما: أنّ ذلك المَوضع بعينه يُنْقل إلى الجنة.
- والثاني: أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنّة.
ثلاثة أوجه للعلماء في معنى الحديث
في معنى هذا الحديث: ذكر العلماء أوجهاً ثلاثة:- الوجه الأول: أن هذا المكان يُشْبه روضات الجنات، في حصول السعادة والطمأنينة لمَنْ يجلس فيه.
- الوجه الثاني: أنّ العبادة في هذا المكان، سببٌ لدُخُول الجنة. اختاره ابن حزم في «المحلى» (7/284)، ونقل ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه يختار الصلاة في الروضة.
- الوجه الثالث: أنّ البقعة التي بين المِنْبر وبيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ستكون بذاتها في الآخرة روضةً مِنْ رياض الجنة.

ما بين بيتي ومنبري
أما لفظ: «ما بينَ قَبري ومنبري...» فلمْ يخرجه صاحبا الصّحيح، ولكن رواه البزار، وأحمد، والطبراني، ومالك، وأبو نعيم، وابن أبي عاصم في كتاب السنن. وجاء في رواية ابن عساكر لصحيح البخاري، وما زال بعض العلماء- كالإمام النووي- يعزو هذا اللفظ لصحيح البخاري، بل إنّ البخاري نفسه لمّا أخرج الحديث في كتاب «فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة» بَوَّب عليه بقوله: باب فضل ما بين القبر والمنبر. قال الحافظ ابن حجر: «وترجم بذكر القبر، وأورد الحديثين بلفظ البيت؛ لأنّ القبر صار في البيت، وقد ورد في بعض طرقه بلفظ: «القبر»، قال القُرطبي: الرواية الصحيحة «بيتي»، ويروى «قبري»، وكأنّه بالمعنى؛ لأنّه دُفن في بيت سكناه» انتهى. ويقول أيضا -رحمه الله-: «قوله: «ما بين بيتي ومنبري» كذا للأكثر، ووقع في رواية ابن عساكر وحده: «قبري» بدل «بيتي» وهو خطأ، فقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة قبيل الجنائز بهذا الإسناد بلفظ: «بيتي» وكذلك هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه.فضيلة بيت السيدة عائشة -رضي الله عنها-
نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله: «بيتي» أحد بيوته، لا كلّها، وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ: «ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة» أخرجه الطبراني في الأوسط». «فتح الباري» (4/100)، وقال أيضاً: قوله: «ما بين بيتي ومنبري» كذا للأكثر، ووقع في رواية ابن عساكر وحده «قبري» بدل بيتي وهو خطأ... «فتح الباري» (3/70)، نعم قد وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عن البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر. انتهى. وصحّحه الألباني في «ظلال الجنة».ضعف لفظ قبري
غير إن العلماء حكموا على لفظ «قبري» بالضعف، وذلك لسببين اثنين:- الأول: أنّه مخالف لرواية الأكثرين من الرواة، فيغلب على الظن أنّ مَنْ قال «قبري» إنما رواه بالمعنى وليس باللفظ.
- الثاني: أنه لو كان هذا اللفظ صحيحاً، لعَرَف به الصحابة مكان دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتنازعوا فيه، أو لكان احتجّ به بعضُهم في ذلك الموقف، ولكن ذلك لمْ يقع، فدل على أنّ لفظ «قبري» خطأ من بعض رواة الحديث.
من فوائد الحَديثِ:
1- تَفضيلُ المَدينةِ، والتَّرغيبُ في المُقامِ بها، والله -سبحانه وتعالى- يَختصّ ما يشاء من الزمان والمكان والأشخاص بالفضائل، وله في ذلك الحِكْمة البالغة التي قد لا نطلع عليها، فضَّلَ اللهُ -تعالى- بَعضَ بِقاعِ الأرضِ على بَعضٍ، ومِن البِقاعِ التي فَضَّلَها اللهُ عزَّ وجلَّ الرَّوضةُ الشَّريفةُ. 2- أنّ لهذا المكان فضيلة ظاهرة، تقتضي مِنَ المُسلم الحرص على الجلوس فيها والصلاة فيها، غير أنّ الأهم هو تقوى الله -تعالى-، فذلك سببُ دُخول الجنة، وليس الجلوس المُجرّد في الرّوضة، أو في أيّ مكانٍ آخر.
لاتوجد تعليقات