شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يلزم مَنْ أحْرَمَ بالحَجّ ثمّ قَدِمَ مكّة مِنَ الطّوافِ والسّعي
- كان التَّابِعونَ يَسألونَ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم فيما أشكَلَ عليهم مِن شَرائِعَ وعِباداتٍ وكانوا مِنْ أحرَصِ النَّاسِ على تَعلُّمِ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ [ واتباعها
- الجِماع مِن مَحظوراتِ الإحرامِ بل هو أشَدُّها حتى يَقضيَ المُحرِمُ مَناسِكَه ويَحِلَّ منها فلا يجوز الجِماع للمُحْرم بالحج أو العمرة حتى يَتحلّل وإذا جامع في العُمرة قبل الفراغ منْ سعيها فسَدَت العمرة
عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟»، وفي رواية: رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحْرَم بالحجّ، وطَافَ بالبيت، وسَعَى بينَ الصّفا والمَرْوة.
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعاً، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وفي الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج (2/905) وبوّب عليه بمثل تبويب المصنف.الحَديثِ الأول
في الحَديثِ الأول: يَرْوي التَّابِعيُّ وَبَرةُ بنُ عبدالرَّحمنِ الكوفيُّ أنَّ رجُلًا سَأل عبداللهِ بنَ عُمرَ -رضي الله عنهما-: هَل يصِحُّ أنْ أَطُوفَ بالْبَيتِ بعدَ الإِحْرامِ، وقبلَ الوُقوفِ بعَرفةَ؟ وفي رواية لمُسلم: «وقد أحرَمتُ بالحجِّ» أي: أفرَدَ الإحْرامَ بالحجِّ، ولمْ يكنْ مُتمتِّعًا ولا قارِناً، سألَه ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما-: وأيُّ شيءٍ يَمنعُكَ مِن أنْ تَبدأَ بالطَّوافِ؟! وهذا دَليلٌ عَلى مُوافَقةِ ابنِ عُمرَ عَلى مشروعيّة الطَّوافِ أوَّلًا. فقالَ الرَّجلُ السَّائلُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ؟ وفي رواية: «إنِّي رأيتُ ابنَ فُلانٍ» يقصِدُ عبداللهِ بنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- «يَكرهُهُ» أي: كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يَنهى عن الِابْتداءِ بالطَّوافِ، قبلَ قُدُومِ عَرَفةَ. فقَالَ له ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟». وفي رواية لمسلم: «وأنتَ أَحبُّ إلينا مِنه، رأينَاه قدْ فتَنَته الدّنيا» يقصِدُ أنَّه يقدِّمُ قولَ ابنِ عُمرَ على قولِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهم-، مُدَّعيًا أنَّ ابنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قد فَتنَتْه الدُّنيا؛ لأنَّه كان واليًا على البَصرةِ من قِبَلِ ابنِ عمِّه عليِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -، والوِلاياتُ تكونُ محلَّ الخطَرِ والفِتْنةِ، وأمَّا ابنُ عُمَرَ فلم يتوَلَّ شيئاً. فقال له ابنِ عُمرَ -رضي الله عنهما-: «وأيُّنا لمْ تَفتِنْه الدُّنيا» وهذا مِن إنْصافِه، وتَواضُعِه وزُهدِه، وردّه على طَعنِ الرَّجلِ على ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنه -، وبَيانًا منه لفَضلِ عبداللهِ بنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما. ثُمَّ أخبَرَ ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحْرمَ بالحجِّ، وَطافَ بالبَيتِ طوافَ القُدومِ سَبعةَ أشْواطٍ، وسَعى بينَ الصَّفا والمَروةِ، يَعني: أنَّه ابتدَأَ بالطَّوافِ والسَّعيِ قبلَ الخُروجِ إلى مِنًى وعَرفةَ. قالَ العلماء: إنْ كان المُحْرِمُ مُفرِدًا بالحجِّ، وقَعَ طَوافُه هذا للقُدومِ، وإنْ كان مُفرِداً بالعُمرةِ أو مُتمتِّعاً أو قارِنًا، وقَعَ عن طَوافِ العُمرةِ نَواه له أو لغَيرِه، وعلى القارِنِ أنْ يطوفَ طَوافًا آخَرَ للقُدومِ. والمشهورُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أحرَمَ قارِنًا لحَجَّةٍ وعُمرةٍ معًا، فكان طوافُه - صلى الله عليه وسلم - لعُمرتِه، ثُمَّ أُدخِلتِ العُمرةُ في أعْمالِ الحجِّ. وقد ذكر الصحابي الجليل ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- للرَّجلِ قاعدةً يتَّبِعُها في طلَبِه للعِلمِ، وهي أنَّ سُنَّةَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه - صلى الله عليه وسلم - أَحقُّ وأوْلى في الاتِّباعِ مِن قولِ فلان، وسُنَّةِ فُلانٍ. وقولُه: «إنْ كُنتَ صادِقًا» مَعناه: إنْ كُنتَ صادِقًا في اتِّباعِكَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلا تَعدِلْ عن فِعلِه.فوائد الحديث
- وَرَعُ الصَّحابةِ عنِ خَوضِ بَعضِهم في أعْراضِ بعضٍ.
- وفيه: عَدمُ القَبولِ بتَزكيةِ النَّفْسِ في مَعرِضِ ازْدِراءِ الآخَرينَ.
الحديث الثاني
الحديث الثاني رواه البخاري في العمرة (1793) باب: متى يَحلُّ المعتمر؟ وفي هذا الحَديثِ يَروي التَّابِعيُّ عَمرُو بنُ دِينارٍ أنَّهم سَألوا عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: هل يَجوزُ أنْ يُجامِعَ الرَّجُلُ زَوجتَه وهو في العُمرةِ قَبلَ السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ؟ ومعلومٌ أنَّ الجِماعَ مِن مَحظوراتِ الإحرامِ بل هو أشَدُّها حتى يَقضيَ المُحرِمُ مَناسِكَه ويَحِلَّ منها، فلا يجوز الجِماع للمُحْرم بالحج أو العمرة، حتى يَتحلّل، وإذا جامع في العُمرة قبل الفراغ منْ سعيها، فسَدَت العمرة، ولزم المضي والاستمرار فيها، ثم قضاؤها من مكان الإحْرام بالأولى، مع ذبح شاةٍ عن كلّ واحدٍ منكما، تُذبحُ وتُوزع على فقراء مكة.
وأمّا الجماع بعد السعي وقبل الحلق أو التقصير، فلا تفسد به العمرة، لكن تلزم فيه الفدية على التخيير. فأخبَرَه ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ، فطافَ بالبَيتِ الحرامِ سَبعةَ أشواطٍ، ثم صلَّى رَكعتَيْنِ خَلفَ مَقامِ إبراهيمَ، ثم سَعى بَينَ الصَّفا والمَروةِ، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)، يُريدُ ابنُ عُمَرَ بذلك: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكُنْ يَفعَلُ شيئًا مِمَّا ذكَرَه السَّائِلُ قَبلَ السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ.وَجهُ الاستِدلالِ
ووَجهُ الاستِدلالِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ العُمرةَ شَيئًا واحِدًا له أجزاءٌ: الطَّوافُ والصَّلاةُ خَلفَ المَقامِ، والسَّعيُ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، ثم الحلق أو التقصير، فهذه أجزاءُ العُمرةِ، فلا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ الرَّجُلُ على زَوجتِه بَينَ أجزائِها. وقد سألَ عَمرُو بنُ دِينارٍ جابِرَ بنَ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أيضًا عن ذلك، فقال له جابِرٌ - رضي الله عنه -: لا يَقرَبِ الرَّجُلُ امرأتَه حتى يَطوفَ بَينَ الصَّفا والمَروةِ». رواه البخاري (1794)، أي: حتى يُتِمَّ عُمرَتَه بكُلِّ نُسُكِها، ويَحلِقَ أو يُقصِّرَ شَعرَه، ثم له أنْ يَتحلَّلَ ويُباشِرَ ما يَحِلُّ له.فوائد الحديث
- مَشروعيَّةُ إطلاقِ لَفظِ (الطَّوافِ) على السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ.
- كان التَّابِعونَ يَسألونَ الصَّحابةَ -رَضيَ اللهُ عنهم- فيما أشكَلَ عليهم مِن شَرائِعَ وعِباداتٍ، وكانوا مِنْ أحرَصِ النَّاسِ على تَعلُّمِ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - واتباعها.
لاتوجد تعليقات