رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 21 أكتوبر، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الفِدْية على المُحْرم

  • يسَّرَ الشَّرعُ الحنيفُ على النَّاسِ فيما يشُقُّ عليهم منْ الأحكامِ وبَيَّن لهم البدائِلَ الشَّرعيَّةَ لِمن لم يستَطِعْ فِعلَ ما أمَرَ اللهُ به
  • المُحرِم إذا مات فإنَّه يَبقى في حَقِّه حُكمُ الإحْرامِ فلا يُحَنَّطُ بطيب ولا يُغَطَّى رَأْسُه ولا يُكَفَّنُ في ثَلاثةِ أثْوابٍ كغَيرِه

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى كَعْبٍ - رضي الله عنه - وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). فَقَالَ كَعْبٌ -]-: نَزَلَتْ فِيَّ، كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي، فَحُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - والْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). قَالَ: صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، نِصْفَ صَاعٍ طَعَاماً، لِكُلِّ مِسْكِينٍ. قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً. الحديث رواه مسلم في الحج (2/861) باب: جواز حلق الرأس للمُحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، ورواه البخاري في الحج (1814) باب: قول الله -تعالى-: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). وفي التفسير (4517) فهو متفق عليه.

          في هذا الحَديثِ يروي التابعيُّ الثقة عبداللهِ بنُ مَعقِلٍ وهو ابن مقرن، أبو الوليد المزني الكوفي. لأبيه صحبة. وقد حدث عن أبيه، وعن عليّ، وابن مسعود، وكعب بن عجرة، وجماعة، وكَعْبِ بنِ عُجْرةَ هو الأنصاري السّالمي المدني، من أهل بيعة الرّضوان، له عدة أحاديث.

معْنى قولِه -تعالى-:

{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}

         يقول عبداللهِ بنُ مَعقِلٍ أنَّه قَعَدَ إلى الصَّحابيِّ كعْبِ بنِ عُجْرةَ - رضي الله عنه - في مَسجدِ الكوفةِ، فسَألَه عن معْنى قولِه -تعالى-: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196)، فأجابه كَعْبُ بنُ عُجْرةَ - رضي الله عنه - بما وقَعَ له، فقالَ: حُمِلْتُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والقَمْلُ يَتناثَرُ على وَجْهي»، وفي راوية لمسلم أنه كان بالحديبية، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رآه كذلك: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى» أي: ما كنتُ أظنّ أنّ المَشقَّةَ والتَّعبَ «قد بَلَغَ بك هذا» الَّذي رأيْتُ. أي: آذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يحلق رأسه، ليتخلّص مِنْ أذى القمل، ثمَّ سأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَجِدُ شَاةً؟» والشّاة هي الواحِدةُ مِنَ الضَّأنِ، وتُذبَحُ فِديةً نظيرَ ارتكابِ أمْرٍ مِنْ محظوراتِ الإحرامِ، وهو هنا: حَلْقُ الشَّعرِ لأجْلِ إزالةِ القَملِ عنه، فقال كعبٌ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لا أجِدُها، أي: لا أملِكُها، ولا أملِكُ ثمنَها. فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صُمْ ثَلاثةَ أيَّامٍ» أي: نظيرَ ما ستفعَلُه منْ حَلقِ شَعرِ رأسِك، وهذا بيانٌ لِقولِه -تعالى-: {ففدية مِنْ صِيَامٍ} أو أطْعِم ستَّةَ مَساكينَ، بياناً لِقولِه -تعالى-: {أَوْ صَدَقَةٍ} لكُلِّ مِسكينٍ نِصفُ صاعٍ مِن طَعامٍ. كما في رواية: «أو تصدّق بفَرَقٍ بين ستة مساكين» والفَرَق: ثلاثة آصُع، قال: «واحلِقْ رأسَك».

مذهب الأئمّة الأربعة

          وورد عن ابن عباس في قوله: {ففدية منْ صِيامٍ أو صَدقةٍ أو نُسُك} قال: إذا كان «أو» فأيّه أخذتَ، أجْزأ عنك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وطاووس، والحسن، وحميد الأعرج، وإبراهيم النخعي، والضحاك، نحو ذلك، قال ابن كثير: «وهو مذهب الأئمّة الأربعة وعامة العلماء، أنه يخير في هذا المقام، إنْ شاء صام، وإنْ شاء تصدّق بفَرَق، وهو ثلاثةُ آصُع، لكلّ مسكينٍ نصفُ صاع، وهو مُدّان، وإنْ شاء ذبح شاة، وتصدّق بها على الفقراء، أيُّ ذلك فعل، أجْزأه. ولمّا كان لفظ القُرآن في بيان الرُّخْصة جاء بالأسْهل فالأسهل: {ففديةٌ منْ صِيامٍ أو صَدقةٍ أو نُسُك}، ولمّا أمَر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة بذلك، أرْشده إلى الأفْضل، فالأفضل، فقال: انْسُك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام؛ فكلٌّ حسن في مقامه. ولله الحمد والمنة. انتهى قَوله: «فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً» أخبَرَ كعبُ بنُ عُجرةَ - رضي الله عنه - مَنْ سأله أنَّ الآيةَ وإنْ كانت نزلت فيه خاصَّةً، فهي للمُسلمينَ عامَّةً، فالعَمَلُ بمقتضاها لكُلِّ النَّاسِ إلى يومِ القيامةِ، وهي قاعدة مهمة، نصّ الأصوليون والفقهاء عليها، وهي أن: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وهذه القاعدة متفق عليها عند جماهير أهل العلم ولم يخالف فيها إلا القليل.

فوائد الحديث

1- يسَّرَ الشَّرعُ الحنيفُ على النَّاسِ فيما يشُقُّ عليهم منْ الأحكامِ، وبَيَّن لهم البدائِلَ الشَّرعيَّةَ لِمن لم يستَطِعْ فِعلَ ما أمَرَ اللهُ به. 2- مَشروعيَّةُ حَلقِ المُحرِمِ شَعْرَ رَأسِه لِأَذى القَملِ ونحوه مِن الأمراض. 3- وفيه: بيانُ حِرصِ التابعينَ على معرفةِ الأحكامِ، وبيانُ الصَّحابة لهم. 4- وفيه: جُلوسِ الصحابة -رضي الله عنهم- للناس للتدريس ولمُذاكَرةِ العِلمِ، وحرص التابعين على الأخذ عنهم.

باب: في المُحْرم يموت ما يفعل

        عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ، فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا». الحديث رواه مسلم في الحج (2/865) باب: ما يُفعل بالمُحرم إذا مات. ورواه البخاري في الجنائز (1265، 1266، 1267). فهو متفق عليه. في هذا الحَديثِ يَروي عبدالله بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَجُلًا كان يَقِفُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على جبلِ عرَفاتٍ في حجَّةِ الوَداعِ، وكان راكبًا دابَّتَه، فسقَطَ عنها، «فَوَقَصَ» وفي لفظ: «فَوَقَصَتْه» أي: كَسَرَتْ عُنُقَه، وفي لفظ: «فأَقْصَعَتْه» أي: فمات موتًا سريعًا، فأَمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَغسِلوه بِماءٍ وسِدْرٍ، والمقصود بالسدر هو ورقُ شجرِ النَّبْقِ، وأوراقه تقوم مقام الصابون برائحة طيبة، ويوضع في ماء الغسل، ولكنْ لا يُستخدَمُ كطِيبٍ، وأن يُكَفِّنوه في ثَوبَينِ.

ولا يُحَنِّط من الحنوط

         وهو كل ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم من مسك وذريرة وصندل وعنبر وكافور وغير ذلك. بوضعِ الطِّيبِ الَّذي يُخلطُ ويوضَعُ للمَيتِ، لأنَّه قد مات متلبِّسًا بالحجِّ، والحاجُّ لا يَتطيَّبُ، ولا يُخَمِّروا رَأْسَه، فلا يُغَطُّوه، لِأَنَّه مُحرِمٌ، وعلَّل ذلك بأنَّه يُبعَثُ يَومَ القيامةِ يُلَبِّي، وهي الحال التي مات عليها. قال النووي: في هذه الروايات دلالة بينة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحق وموافقيهم، في أن المحرم إذا مات لا يجوز أن يلبس المخيط، ولا تخمر رأسه، ولا يمس طيباً وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم: يفعل به ما يفعل بالحي وهذا الحديث راد عليهم. اهـ

فوائد الحديث

1- أنَّ المُحرِمَ إذا مات فإنَّه يَبقى في حَقِّه حُكمُ الإحْرامِ، فلا يُحَنَّطُ بطيب، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا يُكَفَّنُ في ثَلاثةِ أثْوابٍ كغَيرِه. 2- وفيه: الكَفَنُ في ثَوبَيْنِ لِلمُحْرِمِ، بدون إضافة. 3- وفيه: مَشروعيَّةُ تَكْفينِ المُحرِمِ في ثيابِ إحْرامِه، وأنّ التكفين في الثياب الملبوسة جائز، قال النووي: وهو مُجمعٌ عليه، وجواز الكفن في ثوبين، وأما الثلاثة أثواب الواردة في حديث عائشة فهي للاستحباب، وهو قول الجمهور، وأما الواحد الساتر لجميع البدن فلا بدّ منه بالاتفاق. 4- وأن التكفين واجب، وهو إجماع في حق المسلم، وكذلك غسله والصلاة عليه ودفنه. 5- وفيه: مَشروعيَّةُ استِعْمالِ السِّدْرِ في غُسْلِ المَيِّتِ. 6- قال ابن بطال: فيه أن من شرع في عمل طاعة، ثم حال بينه وبين إتمامه الموت، رُجيَ له أن يكتبه الله له في الآخرة من أهل ذلك العمل. 7- يومُ القِيامةِ يومُ الجَزاءِ على الأعْمالِ في هذه الدُّنيا، والجزاءُ يكونُ مِن جِنسِ العَملِ، فيَبعثُ اللهُ كلَّ إنسانٍ على ما ماتَ عليه مِن اعتقادٍ وعملٍ فيُجازِيه عليه. 8- قال النووي: وفيه دليل على استحباب دوام التلبية في الإحرام.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك