شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الصَّيدِ للمُحْرم
- هناك أحكامٌ وآدابٌ يَجِبُ على المُحرِمِ الالتزامُ بها حتَّى تَتِمَّ عِبادتُه على الوجْهِ الأكمَلِ وَفْقَ مُرادِ اللهِ عزَّوجلَّ
- في جواز قبول الهدية يُسْتحبّ لمن امتنع مِنَ قبول هديةٍ ونحوها لعُذر أن يعتذر بذلك إلى المُهْدي تطييبًا لقلبه
عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَال: فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا فِي وَجْهِي؛ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» وعَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَذْكِرُهُ: كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ، أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ قَالَ: أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ، فَقَالَ: «إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ»، الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/850) باب: تحْريم الصّيد للمُحْرم.
الصَّعب بن جثَّامة هو ابن قيس بن ربيعة اللّيثي، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان جثامة حليف قريش، تزوج أخت أبي سفيان بن حرب، واسمها فاختة، وقيل: زينب. فولدت له الصعب، وكان الصعب ينزلُ الأبواء وودّان مِنَ الحِجاز. قوله: «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيًّا»، وفي رواية: «منْ لحم حمار وحش»، وفي رواية «عَجْز حِمار وحشٍ يَقْطر دما»، وفي رواية: «شِقّ حمار وحش»، وفي رواية: «عُضْواً مِنْ لَحْم صيد» هذه روايات مسلم، وترجم له البخاري: باب إذا أهْدِي للمُحرم حِماراً وحشيا حيّاً لمْ يقبل، ثم رواه بإسناده، وقال في روايته: «حماراً وَحْشيَّاً»، وحُكي هذا التأويل أيضًا عن مالك وغيره، قال النّووي: وهو تأويلٌ باطل، وهذه الطُّرق التي ذكرها مسلم؛ صَريحة في أنه مذبوح، وأنّه إنّما أهدى بعضَ لَحْم صَيدٍ لا كله.تَحريم الاصْطياد على المُحْرم
واتفقَ العُلماء على تَحريم الاصْطياد على المُحْرم، وقال الشافعي وآخرون: يَحْرُمُ عليك تملّك الصّيد بالبيع والهِبة ونحوهما، وفي مُلكه إيّاه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد: فإنْ صَاده أو صِيدَ له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أم بغير إذنه، فإنْ صَاده حلالٌ لنفسِه ولمْ يَقصد المُحرم، ثمّ أهدى منْ لَحمه للمُحْرم أو باعه لمْ يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود. (شرح النووي). قوله: «وهو: بالأبْواء أو بودّان» وهما مكانان بين مكة والمدينة، جَنوبَ غرْبِ المدينةِ، ويَبعُدانِ عنها نحْوُ (250 كيلومِترٍ تَقريبًا). قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا لمْ نرُدّه عليك إلا أنا حُرُم» أي: مُحْرمون، قال القاضي عياض: رواية المحدثين في هذا الحديث «لمْ نرُدّه» بفتح الدال. قال: وأنكره مُحققُو شيوخنا مِنْ أهل العربية، وقالوا: هذا غلط من الرواة، وصوابه: ضم الدال، قال: ووجدته بخط بعض الأشياخ بضم الدال، وهو الصّواب عندهم على مذهب سيبويه. قال أبو حنيفة: لا يَحْرُم عليه ما صِيدَ له؛ بغير إعانةٍ منه، وقالت طائفة: لا يحلّ له لَحمُ الصيد أصْلاً، سواءً صَاده، أو صَاده غيرُه له، أو لمْ يَقْصده، فيَحرُم مُطْلقًا، حكاه القاضي عياض عن عليّ وابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم-؛ لقوله تعالى: {وحُرّمَ عليكم صيد البَرّ ما دُمْتم حُرُما} (المائدة: ٦٩). قالوا: المُراد بالصيد: المَصِيد، ولظاهر حديث الصّعْب بن جثامة، فإنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - ردّه، وعلّل ردّه أنّه مُحْرم، ولمْ يقل: لأنّك صِدّته لنا. وكذا حديث زيد بن أرقم: «إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ».احتجاج الشافعي وموافقوه
واحتج الشافعي وموافقوه: بحديث أبي قتادة المذكور في صحيح مسلم بعد هذا، فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة - وهو حلال - قال للمُحْرمين: «هو حَلالٌ فكلوا». وفي الرّواية الأخرى قال: «فهل معكم منه شيء؟ قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلها». وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي: عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صيدُ البَرّ لكم حَلال، ما لمْ تَصِيدُوه، أو يُصَادُ لكم». قلت: وسنده حسن. قال أصْحابنا: يجبُ الجَمع بين هذه الأحاديث، وحديث جابر هذا صريحٌ في الفرق، وهو ظاهرٌ في الدّلالة للشافعي وموافقيه، وردٌ لما قاله أهل المذهبين الآخرين، ويُحمل حديث أبي قتادة على أنه لمْ يَقْصدهم باصْطياده، وحديث الصّعب أنّه قَصَدهم باصْطياده، وتُحْمل الآية الكريمة على الاصْطياد، وعلى لحمِ ما صِيدَ للمُحْرم؛ للأحاديث المَذْكورة المُبيّنة للمراد مِنَ الآية. وأما قولهم في حديث الصّعب: أنه - صلى الله عليه وسلم - عَلّلَ بأنه مُحْرم؛ فلا يمنع كونه صِيدَ له؛ لأنّه إنّما يَحْرُم الصيد على الإنسان؛ إذا صِيدَ له، بشَرط أنه مُحْرم، فبيّن الشّرط الذي يَحْرم به.قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا لمْ نَردّه عليك إلا أنّا حُرُم»
فيه: جواز قبول الهدية للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف الصّدقة. وفيه: أنه يُسْتحبّ لمن امتنع مِنَ قبول هديةٍ ونحوها لعُذر؛ أن يعتذر بذلك إلى المُهْدي، تطييبًا لقلبه. وقد علَّل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - له ذلك بقولِه: «أنَّا حُرُمٌ» وهو مِن جميلِ خُلُقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه لَمَّا رأى تَغيُّرَ وجْهِ الصَّعبِ بنِ جَثَّامةَ وحُزنَه مِن ردِّ هَديَّتِه، بيَّن له أنَّه لم يَرُدَّها لشَيءٍ؛ إلَّا لأنَّه مُحرِمٌ لا يَأكُلُ الصَّيدَ المذبوحَ مِن أجْلِه. ولا يُعارِضُ امتِناعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن قَبولِ الحِمارِ الوَحشيِّ مِن الصَّعبِ بنِ جَثَّامةَ؛ قَبولَه للأكْلِ مِن الحِمارِ الوحشيِّ الَّذي اصطادَه أبو قَتادةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّ الفرْقَ بيْن الحالتينِ أنَّ أبا قتادةَ - رضي الله عنه - لمْ يَصطَدِ الحِمارَ مِن أجْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بلِ اصطادَهُ مِن أجْلِ نفْسِه، ثمَّ أكَل معه أصحابُه وأكَلَ منه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بخِلافِ الصَّعبِ بنِ جثَّامةَ الَّذي اصطادَ الحِمارَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فلذلك رفَضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبولَه أو الأكْلَ منه؛ لأنَّ المُحرِمَ لا يَصطادُ حالَ إحرامِه، ولا يَأكُلُ مِن صَيدٍ اصطادَه مُحرِمٌ أو حَلالٌ له.فوائد الحديث
هناك أحكامٌ وآدابٌ يَجِبُ على المُحرِمِ الالتزامُ بها؛ حتَّى تَتِمَّ عِبادتُه على الوجْهِ الأكمَلِ، وَفْقَ مُرادِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومِن هذه الأحكامِ: تَحريمُ صَيدِ البرِّ حالَ الإحْرامِ؛ قال -تعالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (المائدة: 95). استحباب تَوضيحُ عُذرِ مَن امتنَع مِن قَبولِ هَديَّةٍ ونحوِها للمُهدِي؛ تطْييبًا لقلبِه. وفيه: حُسْنُ خُلقِه - صلى الله عليه وسلم - وطِيبِ مُعامَلتِه لأصْحابِه. وفيه: مَشروعيَّةُ أكْلِ لُحومِ الحُمُرِ الوَحشيَّةِ، وأنّ المُحرّم هو الحمار الأهلي. وفيه: بَيانُ ما يَجوزُ أكْلُه للمُحرِمِ مِن الصَّيدِ، وهو الذي صادَه الحلالُ، دونَ أنْ يُساعِدَه المُحرِمُ عليه بشَيءٍ.حقيقة المنهج السلفي
المتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية يرى أن منهج الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين قام على تعظيم نصوص الوحيين القرآن والسنة، وكمال التسليم لهما، أما المخالفون لمنهجهم وطريقهم من أهل البدع والأهواء، فقد زلَّت أقدامهم، وضلت عقولهم في ذلك، فحرَّفوا، وغيَّروا، وبدَّلوا، وأوَّلوا، ووقعوا في الفتنة والزَّيغ والضلال، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وإن الحق والهدى والنجاة في متابعة ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا على الهدى المستقيم؛ ولهذا جعلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الميزان الحق حين وقوع الفتن والافتراق في أُمته؛ وهذا المنهج ليس منهجًا قاصرًا عن مواكبة أحداث الحياة والعصر، وليس منهجًا ناقصًا يعتريه الخلل والخطأ، إنما هو منهج حياة شامل وكامل صلح به المسلمون الأوائل، ومكنوا به، وشموليته تعني دخول جميع مجالات الحياة البشرية في منهجه، من حياة الإنسان الخاصة، وإلى حياة الأمم والعالم، فمن شموليته دخول العقيدة والعبادة والأخلاق في منهجه، ودخول شؤون المعاملات والتجارات والاقتصاد والسياسة، ومجالات العلم والبحث والفكر والتربية، وشؤون الحكم والسلطان، والحرب والسلم وأحكام الأسرة المسلمة، وغير ذلك مما يتعلق بجميع شؤون الإنسان في الحياة كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة:3)، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:162).
لاتوجد تعليقات