رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 14 أكتوبر، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: غَسْلُ المُحْرم رأسَه

  • الحديثُ واضح الدّلالة على جواز اغْتسال المُحرم وغَسله رأسه وإمْرار يده على شَعره ودَلْكه باليد منْ غير أنْ يتعمّد أنْ ينتف شعرًا
  • الصّحابة كانوا يناظرون بعضهم بعضًا في الأحْكام وأنهم رضي الله عنهم يَختلِفونَ أحْيانًا في بَعضِ المَسائلِ لكنَّهمْ كانوا يَتعامَلونَ بآدابِ الخِلافِ التي علَّمَهم إيَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم
 

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ: عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ، فَقَالَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وقَالَ المِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عبداللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ - رضي الله عنه - يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/864) باب: جواز غَسل المُحْرم بدنه ورَأسه. وأخرجه البخاري في جزاء الصيد (1840) باب: الاغتسال للمحرم، وعبدالله بن حُنين الهاشمي مولاهم، تابعي ثقة، قال الحافظ ابن حجر: المشهور أنّ حنينًا كان مولى للعباس، وهبه له النبي - صلى الله عليه وسلم - فأولاده موال له.

        يحكي عبداللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ مناظرة علمية جرت بين اثنين منْ صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اخْتلفا بالأبْواء، أي: وهما في المكان المعروف بالأبواء، وهي مَنطقةٌ بيْن مكَّةَ والمدينةِ، تَقَعُ جَنوبَ غرْبِ المدينةِ، وتَبعُدُ عنها نحْوَ (250 كم) تَقريبًا، وبها قبْرُ أمِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أي: وهما نازلان فيه للاسْتراحة، حول حُكم اغْتسال المُحْرم، وغَسل رأسه، ودلك أصُول شَعْره، فعبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- يقول: هذا جائز، ولعلّه كان على علمٍ بذلك عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أبي أيوب الأنصاري، وكان يقول في مجالسه: أميِطوا عنكم الأذى، فإنّ الله لا يصنع بأذاكم شيئا. والمسْور بن مخرمة - رضي الله عنه - يقول: هذا غير جائز، فقد حرم على المحرم قلع شعره، والغُسْل ودَلْك الرأس، يُعرّض شعره للسقوط، فيقع في المُحرّم، وكأنه يقول ذلك اجتهادًا ورأيًا، وكانا في فَوجٍ من أفواج حجّ بيت الله، وهم مُحْرمُون، ويتوقف على الفتوى اغتسال كثير من الحجاج، فأرسل ابن عباس مولاه عبدالله بن حنين إلى أبي أيوب يسأله: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وهو مُحْرم؟ فلما وصلَ ابنُ حنين إلى أبي أيوب وجده على رأس بئر يغتسل، قال: «يغتسل بين القرنين» أي: بين قرني البئر، تثنية قَرْن، وهما الخَشبتان، أي العَمُودان اللذان يُنْصبان على رأس البئر، وتمدّ بينهما خشبة يعلق عليها البكرة، التي يجرّ عليها الحبل المُسْتقي به. أي: قد وقفَ بين قائمي البئر، وسَتَر نفسه عن الناس بثوب، فسلّم عليه، وقال له: أَنَا عبداللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وهُوَ مُحْرِمٌ؟

السؤال عن أصل الخلاف

       وكان الأصلُ أنْ يَسأل عن أصْل الخِلاف: وهو هل يغسلُ المُحْرمُ رأسه أو لا يَغْسل؟ لكنّه لما جاء فوجده يغتسل، أخذ الجواب، وأحبّ أنْ لا يرجع إلا بفائدة، فتصرّف في السّؤال بفِطْنته، فسأله عن كيفية الغسل، وخصّ الرأس بالسّؤال؛ لأنّها موضع الإشْكال في هذه المَسألة، لأنّها محلّ الشعر الذي يخشى سُقُوطه في أثناء الغُسل، بخلاف بقية البدن غالباً. فقال له: أسألك كيفَ كان رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَغسلُ رأسه؟ قال: «فوضَعَ أبو أيوب يدَه على الثّوب فطَأطأه» أي: أمْسكَ بالثوب المُسْتتر به، وأزاله مِنْ أعلاه حتّى يكشف عن رأسه ووجْهه، وقال لمَنْ يَصبّ عليه: اصبُبْ على رأسي، وأخَذَ يدلك شَعره بيديه، ومُساعده يصبّ عليه. وفي رواية: «جمع ثيابه إلى صَدره حتى نظرت إليه». وفي رواية: «حتى رأيتُ رأسَه ووجهه». ثم قال: «هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وهو مُحْرم»، ورجع ابن حنين إلى مَن أرسله بالسؤال، فتقبل المِسْور الخبر راضياً مُسلّماً، وقال لابن عباس: «لا أماريك أبدًا» أي لا أجادلك، وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان يقال: أمرى فلان فلانًا إذا استخرج ما عنده، وأطلق ذلك في المجادلة لأن كلاً مِنَ المُتجادلين يستخرج ما عند الآخر من الحُجّة. أي: لك الفضل ولك السبق في العلم، ومخالفك لا يغلبك، وأعاهدك ألا أجادلك بعد اليوم أبداً. رضي الله عن الصحابة أجمعين.

فوائد الحديث

  • الحديثُ واضح الدّلالة على جواز اغْتسال المُحرم، وغَسله رأسه، وإمْرار يده على شَعره، ودَلْكه باليد، منْ غير أنْ يتعمّد أنْ ينتف شعرًا، واستدل به القرطبي على وجُوب الدّلك في الغسل.
قال: لأنّ الغُسل لو كان يتم دونه، لكان المُحْرم أحَقّ بأنْ يجوز له تركه، قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه. اهـ (الفتح 4/57)، أي غاية ما فيه: أنّ أبا أيوب دلك، وأنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلك، وقد يكون من باب الاستحباب، فمن أين يُؤخذ الوجوب؟ قال النووي: واتفق العُلماء على جواز غَسل المُحْرم رأسه وجَسَده مِنَ الجنابة، بل هو واجبٌ عليه، وأمّا غسله تبرّداً، فمذهبنا ومذهب الجُمهور: جَوازه بلا كراهة. ويجوز عندنا: غسلُ رأسه بالسّدر والخطمي؛ بحيثُ لا ينتف شعراً، ولا فدية عليه ما لم ينتف شعراً، وقال أبو حنيفة ومالك: هو حرامٌ موجب للفدية.
  • واستُدلّ به على أنّ تخليل اللّحية في الوضوء، باقٍ على اسْتحبابه، خلافًا لمن قال: يكره، كالمتولي من الشافعية، خشية انتتاف الشعر؛ لأنّ في الحديث: «ثم حَرّك رأسَه بيديه» ولا فَرْقَ بين شَعر الرأس وشَعر اللحية، إلا أنْ يقال: إنّ شَعر الرأس أصْلب، قال الحافظ: والتحقيق أنه خلاف الأولى، في حق بعض دون بعض.
  • وفيه: مناظرة الصّحابة بعضهم بعضًا في الأحْكام، وأنهم -رضي الله عنهم- يَختلِفونَ أحْيانًا في بَعضِ المَسائلِ، لكنَّهمْ كانوا يَتعامَلونَ بآدابِ الخِلافِ التي علَّمَهم إيَّاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم .
  • ورجُوعهم إلى النُّصوص عند الاخْتلاف، وترك الاجْتهاد والقِياس عند وجُود النص.
  • وقبولهم خبر الواحد، ولو كان تابعيًا، وأنّ قَبوله كان مَعلومًا مشْهورًا عند الصّحابة.
  • وأنّ قولَ بعضهم ليس بحجّة على بعض، إلَّا بدَليلٍ يَجِبُ التَّسليمُ له، مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ، قال ابنُ عبدالبر: لو كان معنى الاقتداء في قوله - صلى الله عليه وسلم - «أصْحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهْتَديتم» يُراد به الفَتوى، لمّا احتاج ابن عباس إلى إقامة البيّنة على دعواه، بل كان يقول للمسور: أنا نجمٌ وأنت نجم، فبأيّنا اقتدَى مَن بَعدنا كفاه، ولكن معناه- كما قال المزني وغيره منْ أهل النظر- أنه في النّقل؛ لأنّ جميعهم عُدَول. انتهى. (الفتح 4/57) وقلت: والحديث فيه ضعف.
  • وفيه الاعْتراف للفاضِل بفَضله.
  • وإنْصاف الصّحابة بعضهم بعضاً.
  • واسْتتار المُغتسل عند الغُسل.
  • وجواز الاسْتعانة بالغير في الطّهارة.
  • وجواز الكلام والسّلام حالة الطّهارة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك