
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمْي جَمْرة العَقَبة يومَ النَّحْر على الراحلة
- الحجُّ أحَدُ أرْكانِ الإسْلامِ الخَمسةِ وقد بيَّنَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كيفيَّةَ أدائه بقَولِه وفِعلِه وأمَرَ بأخْذِ المَناسِكِ عنه
- حرَصَ الصَّحابةُ على الاقْتداءِ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في كلِّ شيءٍ ولا سيَّما العِباداتُ ومنْها فريضةُ الحجِّ الَّتي تؤخَذُ أرْكانُها وسُننُها وآدابُها من هَديِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
عن جَابِرٍ - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي؛ لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ». (1294/310)، الحديث رواه مسلم في الحج (2/943) باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النّحر راكباً، وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ».
في هذا الحَديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجَليلُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجَّةِ الوَداعِ- والَّتي كانتْ في السَّنةِ العَاشرةِ منَ الهجرةِ- يَرْمي جَمرةَ العَقَبةِ راكباً راحلَتَه -وهي النّاقةُ الَّتي يَرتحِلُ عليها- وذلك يومَ النَّحرِ، يَعني: في رَميَه لِلجَمرةِ في يومِ العيدِ، في العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ. والنّبي - صلى الله عليه وسلم - رَمى راكباً؛ ليُظهِرَ للنَّاسِ فِعلَه، وكان يَقولُ للنَّاسِ: «لِتَأْخُذوا مَناسكَكم» أي: تَعلَّموا مِنِّي، واحْفَظوا الأحْكامَ الَّتي أَتيْتُ بها في حَجَّتي، مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ، فخُذوها عَنِّي واعَمَلوا بِها، وعَلِّمُوها النَّاسَ. وقال النووي: فيه: دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه، أنّه يُسْتحبُّ لمَنْ وَصَل منَى راكباً أنْ يَرمِي جَمْرة العَقبة يومَ النّحر رَاكباً، ولو رَمَاها ماشياً جاز، وأمّا مَنْ وصلها ماشياً فيرميها ماشياً، وهذا في يوم النّحر، وأمّا اليومان الأولان منْ أيّام التّشريق، فالسُّنّة أنْ يَرمي فيهما جميعَ الجمرات ماشياً، وفي اليوم الثالث يرمي راكباً، ويَنْفر، هذا كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال أحمد وإسحاق: يُستحبُّ يوم النّحر أنْ يَرمي ماشياً. قال ابنُ المُنذر: وكان ابنُ عُمر وابن الزبير وسالم يَرمُون مشاة، قال: وأجْمعُوا على أنّ الرّمي يُجزيه على أيّ حَالٍ رَمَاه؛ إذا وَقَع في المَرْمى. انتهى. وبيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - سببَ ذلك فقال: «فإِنِّي لا أَدْرِي لعلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتي هذِه»، وهذا إشارةٌ إلى تَوديعِهم، وإعْلامِهم بقُربِ وَفاتِه - صلى الله عليه وسلم -، وحثَّهم على الِاعْتِناءِ بالأَخْذِ عنه، وانتِهازِ الفُرصةِ مِن مُلازَمتِه وتَعلُّمِ أُمورِ الدِّينِ؛ ولِهذا سُمِّيتْ: حَجَّةَ الوَداعِ. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخُذُوا منَاسككم» فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خُذُوا مَنَاسككم، وهكذا وقع في رواية غير مُسلم، وتقديره هذه الأمُور التي أتيتُ بها في حجّتي مِنَ الأقوال والأفْعال والهيئات، هي أمُور الحَجّ وصفته، وهي مناسككم فخُذُوها عنّي، واقْبلُوها واحْفظُوها، واعْملُوا بها وعلّموها الناس.فوائد الحديث
أمَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه بأخْذِ أُمورِ الدِّينِ، ولا سيَّما المناسِكُ عنه، وألَّا يَعمَلوا بهَواهُم، وإنَّما يتَّبِعونَ ما سَنَّ لهم. وهذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في مَناسك الحجّ، وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة: «صَلُّوا كما رَأيتموني أُصلّي». حرَصَ الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- على الاقْتداءِ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ شيءٍ، لا سيَّما العِباداتُ، ومنْها فريضةُ الحجِّ، الَّتي تؤخَذُ أرْكانُها وسُننُها وآدابُها من هَديِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم - الَّذي فصَّلَ ما أجمَلَه القرآنُ.باب: قَدْرُ حَصَى الجِمَار
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَى الجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ؛ الحديث رواه مسلم في الحج (2/944) باب: اسْتحباب كون حَصى الجِمار بقَدر حصى الخَذف. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ يَرْمى جَمْرةَ العَقَبةِ صَبيحةَ يَومِ النَّحرِ العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ، ورَماها بمِثلِ حَصى الخَذْفِ، والخَذْفُ: هو رَميُكَ حَصاةً، أو نَواةً تأخُذُها بينَ سَبَّابتَيكَ، وتَرْمي بها.المراد بالحديث
والمرادُ بالحديث: بيانُ مِقْدارِ الحَصى الَّتي يُرْمى بها في الصِّغَرِ والكِبَرِ، فكان حُكمُ الجَمَراتِ الَّتي رَمَى بها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أكبَرَ مِنَ الحِمَّصِ، وأصغَرَ مِنَ البُندقِ. وفي هذا إشارةٌ إلى النَّهيِ عنِ الغُلوِّ في الدِّينِ، كاعْتقادِ أنَّ الرَّميَ بالحِجارةِ الكَبيرةِ أبلَغُ مِنَ الرَّميِ بالصَّغيرةِ، ويكونُ الرَّميُ بسَبعِ حَصَياتٍ في كلِّ مرَّةٍ، ويُفرَّقُ بينَ الحَصَياتِ، فيَرْميهنَّ واحدةً واحدةً. فعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: قالَ لي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غداةَ العقبةِ وَهوَ على راحلتِه: «هاتِ القِطْ لي»، فلقطتُ لَهُ حصياتٍ؛ هنَّ حَصى الخَذفِ، فلمَّا وضعتُهنَّ في يدِه، قال: «بأمْثالِ هؤلاءِ، وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّين، فإنَّما أَهلَكَ مَنْ كان قبلَكمُ الغلوُّ في الدِّينِ». أخرجه النسائي (3057) واللفظ له، وابن ماجة (3029)، وأحمد (3248). فقوله: «وإيَّاكم» أي: أُحذِّركم، «والغُلوَّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةَ الحدِّ في أمورِ الدِّينِ، والتَّشدُّدَ فيه بالإفراطِ، ولكن عليكم بالوسَطيَّةِ في كلِّ شيءٍ؛ «فإنَّما أهلَك مَنْ كان قبْلَكم» مِن الأُممِ السَّابقةِ، «الغُلوُّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةُ الحدِّ، والتَّشدُّدُ في الدِّينِ بالإفراطِ؛ فهو سببُ الهلاكِ والبَوارِ.فوائد الحديث
1- بَيانُ تَيسيرِ الإسْلامِ في رَميِ الجَمراتِ، وأنَّها تكونُ صَغيرةً؛ حتَّى لا يَتضرَّرَ النَّاسُ في المناسكِ بها. 2- وفيه: التَّحذيرُ من الغُلوِّ، وبيانُ أنَّه منْ أسبابِ هلاكِ الأممِ السَّابقةِ. 3- الحجُّ أحَدُ أرْكانِ الإسْلامِ الخَمسةِ، وقد بيَّنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كيفيَّةَ أداءِ الحجِّ بقَولِه وفِعلِه، وأمَرَ بأخْذِ المَناسِكِ عنه؛ فعَلى المُسلِمِ أنْ يَقْتديَ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم}
معنى الاسمين ودلالتهما في حق الله تعالى
قال الإمام الشنقيطي -رحمه الله تعال في تفسير قوله تعالى-: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم}: «الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، فالله -جل وعلا- حكم لا يضع أمرا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو -جل وعلا- ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة، وأصل الحكم في لغة العرب: معناه: المنع؛ نقول: حكمه، وأحكمه إذا منعه، هذا هو أصل الحكم، والعليم: صيغة مبالغة؛ لأن علم الله -جل وعلا- محيط بكل شيء، يعلم خطرات القلوب، وخائنات العيون، وما تخفي الصدور، حتى إن من إحاطة علمه -سبحانه- علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون، وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه، ويتبعوا تشریعه؛ لأن حكمته -سبحانه- تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر، ولا يضع أمرا إلا في موضعه، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، أو أن ينكشف عن غير المراد، بل هو في غاية الإحاطة والإحكام، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير، ولا ينهاك إلا عما فيه الشر، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل»، فاسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله -عزوجل- حكيم في أحكامه وقضائه وقدره؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه، فهو حكيم في قضائه وقدره. لذلك فإن مَن عرف اللهَ بعلمه وحكمته، أثمر ذلك في قلبه الرِّضا بحكم الله وقدَرِه في شرعه وكونه، فلا يعترض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدَرِه، وإنما يَرضى المؤمن العارِف بأسماء الله وصِفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنَّه يعلم أنَّ تدبير الله له خيرٌ من تدبيره لنفسه، وأنَّه -تعالى- أعلم بمصلحته من نفسه، ولذا تراه يَرضى ويسلّم، بل إنَّه يرى أنَّ هذه الأحكام القدَريَّة الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا.
لاتوجد تعليقات