شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الْإِهْلَالُ حين تَنْبَعِث الرَاحِلَة
- يوم التّروية: هو الثامن من ذي الحجة وسُمّي بذلك لأنّ الناس كانوا يتروون فيه من الماء أي: يَحملونه معهم منْ مكة إلى عرفات ليَستعملوه في الشرب وغيره
- كان عبداللهِ بنُ عمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما يَهتَمُّ اهتمامًا شَديدًا باتِّباعِ السُّنةِ النَّبويَّةِ في كلِّ أُمورِ حَياتِه وفي عِباداتِه
عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: يَا أَبَا عبدالرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا، لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: مَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، ورَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، ورَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ؟ فَقَالَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْأَرْكَانُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، ويَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وأَمَّا الْإِهْلَالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ، حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. الحديث رواه مسلم في كتاب الحج (2/844) باب: الإهلال من حيثُ تنبعث الراحلة، ورواه البخاري.
وعُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ هو التّيمي مولاهم، المَدَني، مكيٌّ، منْ ثِقات التابعين، وسألَ هذا التابعيُّ: عبداللهِ بنَ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- عَن أربعةٍ أُمورٍ، يقول: لم يَرَ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَفعَلونَها، فقال لابن عمر: رأيتُك تصنع أرْبعاً، لمْ أرَ أحداً منْ أصحابك يصنعها، إلى آخره. قال المازري: يحتمل أنّ مُراده لا يَصْنعُها غيرُك مُجْتمعة، وإنْ كان يصنع بعضها. قوله: «رأيتُك لا تمسّ مِنَ الأركان إلا اليَمانيين» قال له ابن عمر -في جوابه-: إنّه لمْ «يرَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ إلا اليمانيين» وهما بتخفيف الياء، هذه اللغة الفَصيحة المشهورة، قالوا: لأنّ نِسْبتها إلى اليَمن، فحقّه أنْ يقال: اليَمني، وهو جائز، فلما قالوا «اليماني» أبْدلوا من إحدى ياءي النّسب ألفاً، فلو قالوا: اليماني بالتّشديد، لزم منه الجَمع بين البدل والمُبدل. والمُراد بالرُّكنين اليَمانيين: الرُّكن اليماني، والرُّكن الذي فيه الحَجَر الأسْود، ويقال له: العراقي، لكونه إلى جِهة العراق، وقيل للذي قبله: اليماني، لأنّه إلى جِهة اليمن، ويُقال لهما: اليَمانيان تغليباً لأحَد الاسْمين، كما قالوا: الأبَوَان للأبِ والأم، والقَمَران للشّمس والقمر، والعُمَران لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ونظائره مَشْهورة، فتارةً يُغلّبون بالفضيلة كالأبوين، وتارة بالخفّة كالعُمَرين، وتارةً بغير ذلك، وقد بسطته في تهذيب الأسماء واللغات. (النووي بتصرف).الركنان الشاميان لا يُسْتلمان
قال العلماء: ويقال للرُّكنين الآخرين اللذين يليان الحِجر: الشّاميان، لكونهما بجِهة الشّام، قالوا: فاليمانيان باقيان على قواعد إبْراهيم - عليه السلام -، بخِلاف الشّاميين، فلهذا لمْ يُسْتلما، واسْتلم اليمانيان لبقائهما على قواعد إبراهيم - عليه السلام -، ثمّ إنّ العراقي مِنَ اليمانيين اختصّ بفضيلة أخرى، وهي الحَجَر الأسْود، فاختصّ لذلك مع الاسْتلام بتقبيله، ووضع الجبهة عليه، بخلاف اليماني. والله أعلم. (النووي). قال القاضي: وقد اتفق أئمّة الأمْصَار والفقهاء اليوم: على أن الركنين الشاميين لا يُسْتلمان، وإنّما كان الخِلافُ في ذلك العصر الأول من بعضِ الصحابة، وبعض التابعين، ثمّ ذهب.قوله: «ورأيتُك تلبسُ النِّعال السّبتية»
قال ابنُ عمر في جوابه: «وأمّا النّعال السّبتية، فإنّي رأيتُ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلبس النّعال التي ليس فيها شَعر، ويتوضّأ فيها، وأنا أحبّ أنْ ألبسها»، و»السبتية» بكسر السين وإسكان الباء الموحدة، وقد فسّرها ابن عمر بقوله: «التي ليس فيها شعر»، وهكذا قال جماهير أهل اللغة، وأهل الغريب وأهل الحديث: إنّها التي لا شَعر فيها، قالوا: وهي مشتقة من «السَّبت» بفتح السين وهو الحَلْق والإزالة، ومنه قولهم: سَبَتَ رأسه، أي: حَلَقه، قال الهروي: وقيل: سُمّيت بذلك، لأنّها انْسَبَتت بالدّباغ، أي: لانت، يقال: رطبةٌ مُنْسَبتة، أي: لينة. وقال أبو عمرو الشيباني: السّبت: كلُّ جِلْدٍ مدبوغ، وقال أبو زيد: السبت: جلود البقر مدبوغة كانت، أو غير مدبوغة، وقيل: هو نوعٌ من الدباغ يقلع الشّعر، وقال ابن وهب: النعال السبتية كانت سوداً لا شَعْر فيها، قال القاضي: وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره، وإنما كان يلبسها أهلُ الرفاهية. وقوله: «ويتوضّأ فيها» معناه: يتوضّأ ويَلْبسها ورجلاه رَطْبتان.قوله: «ورأيتُك تَصبغ بالصُّفرة»
وقال ابن عمر في جوابه: «وأمّا الصُّفرة، فإنّي رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغ بها، فأنا أحبُّ أنْ أصبُغ بها» فقوله: «يصبغ وأصبغ» بضم الباء وفتحها، لغتان مشهورتان، حكاهما الجَوهري وغيره. قال المازري: قيل: المراد في هذا الحديث: صبغ الشّعر، وقيل: صبغ الثوب، قال: والأشْبه أنْ يكونَ صَبغ الثياب، لأنّه أخْبر أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم - صَبغ، ولمْ يُنقل عنه -صلى الله عليه وسلم - أنه صبغ شعره. وقال القاضي عياض: هذا أظْهر الوجهين، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر، بيّن فيها تَصْفير ابن عُمر لِحْيته، واحتجّ بأنّ النّبي -صلى الله عليه وسلم - كان يصفّر لحيته بالوَرْس والزعفران. رواه أبو داود، وذكر أيضا في حديث آخر: احْتجاجه بأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم لا- كان يصبغ بها ثيابه، حتى عمامته. فعن زيد بن أسلم عنِ ابنِ عمرَ: أنّه كان يصفِّرُ لحيتَه بالصُّفرةِ، حتى تمتلئَ ثيابُه من الصُّفرةِ، فقيل لهُ: لمَ تصبغْ بالصُّفرةِ؟ قال: إنّي رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، ولمْ يكنْ شَيءٌ أحبَّ إليهِ منْها، وقد كان يصبغ بها ثيابَه كلَّها، حتى عمامَتَهُ. أخرجه أبو داود (4064)، والنسائي (5085) باختلافٍ يسير، وأحمد (5717) بنحوه فيُخبِرُ زيدُ بنُ أسلَمَ: أنَّ ابنَ عُمرَ كان يَصبُغُ لِحْيتَه» أي: يُغيِّرُ مِن لَونِها بالصُّفْرَةِ، أي: يَجعَلُ لونَ شَعرِ لِحيَتِه أصفَرَ، وذلك بنَباتِ الوَرْسِ. والوَرْسُ: نَباتٌ كالسِّمْسِمِ أصفَرُ، «حتَّى تَمتلِئَ ثِيابُه مِن الصُّفرةِ»، أي: مِن كَثرَةِ صَبغِه لِلحيَتِه، «فقيلَ لابنِ عُمرَ: لِم تَصبُغُ بالصُّفرَةِ؟ فقال» ابنُ عُمرَ: «إنِّي رأَيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - يَصبُغُ بها»، أي: امتِثالًا مِنه لفِعْلٍ قد رآه مِن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فهو يَتَّبِعُه فيه، «ولم يَكُنْ شيءٌ أحَبَّ إليه»، أي: إلى رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - «مِنْها»، أي: مِن الصَّبْغِ بالصُّفْرَةِ، «وقد كان يَصبُغُ بها ثِيابَه كلَّها حتَّى عِمامَتَه»، أي: حتَّى إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - لِحُبِّه للصُّفرَةِ وإعجابِه بها كان يَستَعمِلُها لِجَميعِ ثيابِه بما في ذلك عِمامَتُه -صلى الله عليه وسلم . قوله: «ورأيتك إذا كنتَ بمكّة، أهلّ الناسُ إذا رَأوا الهِلال، ولمْ تُهل أنتَ، حتّى يكون يوم التروية». قال ابن عُمر في جوابه: «وأما الإهْلال، فإنّي لمْ أرَ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تَنْبعث به راحلته».يوم التروية
ويوم التّروية: فبالتاء المثناة فوق، وهو الثامن من ذي الحجة، سُمّي بذلك؛ لأنّ الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي: يَحملونه معهم منْ مكة إلى عرفات، ليَستعملوه في الشرب وغيره، فالحاج يُحْرِمَ يومَ التَّرويةِ ويُهِلَّ بالحَجِّ، ويفعَلَ كما فعل عند الإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ، مِنَ الاغتسالِ والتَّطَيُّب، ولُبْسِ الإزار وغير ذلك، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلة، وابنِ حَزْمٍ مِنَ الظاهريَّة، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ.الأدِلَّة على ذلك مِنَ السُّنَّةِ
- عن جابِرِ بنِ عبداللهِ -رَضِيَ اللهُ عنهما-، قال: «فلمَّا كان يومُ التَّرويةِ، تَوَجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ». رواه مسل(1218)، وعنه -رضي الله عنه - قال: «أهلَلْنا مع رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحجِّ، فلمَّا قَدِمْنا مكَّةَ أَمَرَنا أن نَحِلَّ ونَجْعَلَها عُمْرةً، فكَبُرَ ذلك علينا وضاقَتْ به صُدُورُنا، فبَلَغَ ذلك النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فما ندْري أشيءٌ بلَغَه مِنَ السَّماءِ، أمْ شيءٌ مِن قِبَلِ النَّاس؟ فقال: أيُّها النَّاس أحِلُّوا، فلَولا الهَدْيُ الذي معي فعَلْتُ كما فعَلْتُم، قال: فأحْلَلْنا حتى وَطِئْنا النِّساءَ، وفَعَلْنَا ما يفعَلُ الحَلالُ، حتى إذا كان يومُ التَّرْويَةِ، وجَعَلْنا مكَّةَ بظَهْرٍ، أهْلَلْنا بالحَجِّ». رواه مسلم (1216).
- وقال المازري: أجابه ابنُ عُمر بضربٍ مِنَ القياس، حيثُ لمْ يتمكّن مِنَ الاستدلال بنفسِ فعل رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - على المَسألة بعينها، فاستدلّ بما في معناه، ووجه قياسه: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما أحْرَم عند الشُّروع في أفْعال الحَج، والذهاب إليه، فأخّرَ ابنُ عمر الإحْرَام إلى حال شُروعه في الحَج، وتوجّهه إليه، وهو يومُ التّروية، فإنّهم حينئذ يَخرجون مِنْ مكة إلى مِنى، ووافق ابن عمر على هذا الشافعي وأصحابه، وبعض أصحاب مالك وغيرهم، فكان ابنُ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- متَّبِعًا لا مُبتدِعاً، -رضِي اللهُ عَن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم - أجمعينَ.
- وقوله في هذا الباب: «فإنّي لمْ أرَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته»، وقال في الحديث السابق: «ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل»، وفي الحديث الذي قبله «كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل»، وفي رواية: «حين قام به بعيره»، وفي رواية: «يُهلّ حتى تستوي به راحلته قائمة».
الأفضل أنْ يُحرم إذا انبعثت به راحلته
هذه الروايات كلها متفقة في المعنى، وانبعاثها هو استواؤها قائمة، وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور: أنّ الأفضل أنْ يُحرم إذا انبعثت به راحلته، وقال أبو حنيفة: يُحرم عقبَ الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته، وقبل قيامه، وهو قولٌ ضعيف للشافعي، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف.وفيه: أن التلبية لا تقدم على الإحرام.
فأجابَه ابنُ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- هنا بِضرْبٍ مِنَ القِياسِ، حيثُ لم يَتمكَّنْ مِنَ الاستِدلالِ بِنفْسِ فِعلِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على المسألةِ بعَينِها، فاستدلَّ بما في معناهُ، ووجْهُ قِياسِه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما أحرَمَ عندَ الشُّروعِ في أفعالِ الحجِّ والذَّهابِ.فوائد الحديث
- فيه أنّ عبداللهِ بن عمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- يَهتَمُّ اهتمامًا شَديدًا باتِّباعِ السُّنةِ النَّبويَّةِ، في كلِّ أُمورِ حَياتِه وفي عِباداتِه، ورُبَّما صنَعَ أموراً لم يَصْنَعْها غَيرُه، لشِدَّةِ تَحرِّيه لاتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم .
- بَيانُ مَشروعيَّةِ الوُضوءِ في النَّعلينِ.
- وفيه: بَيانُ أنَّ الخيرَ في اتِّباعِ السُّنةِ مع الاجْتهادِ والقياسِ عليها لِمَن كان أهْلاً لذلك.
- وفيه: سُؤالُ المُتعلِّمِ للعالمِ عمَّا رآهُ منه ولم يَعرِفْ أصْلَه أو لم يَفهَمْه، وتوضيحُ العالِم ذلِك للسائِلِ.
لاتوجد تعليقات