رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 22 يوليو، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: التّلبية

  • كان رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم  «يُهِلُّ» أي: يَرفَعُ صَوْتَه بالتَّلبِيةِ ويقول في إهْلالِه: «لَبَّيكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ»
  • الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ تعالى لعِبادِه بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب
  • التلبية إجابةٌ للعبادة وإشْعار للإقامة عليها وإنّما يتركها إذا شَرَعَ فيما يُنافيها وهو التّحللُ منْها والتّحلل يحصل بالطواف والسعي
 

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً، عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ، فَقَال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». قَالُوا: وَكَانَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: هَذِهِ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ نَافِعٌ: كَانَ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ والرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، والْعَمَلُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/842) باب: التلبية وصِفتها ووقتها.

       في هذا الحَديثِ بَيانٌ لِصفةِ تَلبِيةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ الإهْلالِ بالحَجِّ؛ حيثُ يَذكُرُ عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان «يُهِلُّ» أي: يَرفَعُ صَوْتَه بالتَّلبِيةِ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في إهْلالِه: «لَبَّيكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ» لبيك أي: أُكرِّرُ إجابَتي لكَ، في امتِثالِ أمْرِكَ بالحَجِّ، فأُلَبِّي أمْرَكَ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ.

قوله: «لبَّيكَ لا شَريكَ لكَ لبَّيكَ»

أي: أنتَ وحدَكَ مالِكٌ في مُلكِكَ بلا مُنازِعٍ أو شَريكٍ، «إنَّ الحَمدَ والنِّعْمةَ لكَ» أي: فلكَ وحْدَكَ الحَمدُ والشُّكرُ والثَّناءُ، وكلُّ نِعمةٍ فهيَ مِنكَ وأنتَ مُعْطيها، «والمُلْكَ لا شَريكَ لكَ» ذكَرَ المُلْكَ بعدَ الحَمدِ والنِّعمةِ، لتَعميمِ أَسْبابِ الطَّاعةِ وإيضاحِ وجوهِ الانْقيادِ والعِبادةِ، ثُمَّ أتْبَعَه بقولِه: «لا شَريكَ لكَ» ليَزولَ الشَّبهُ عنه ويَستقِلَّ بالمُلكِ والحمدِ والنِّعمةِ مُنفرِدًا. وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَزيدُ على قولِ تلك الكلِماتِ في تَلبيتِه وإهْلالِه. وقيلَ: الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ -تعالى- لعِبادِه، بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه، إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب.

متى يُلبّي الحاجُّ أو المعتمر؟

       في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أهَلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اسْتَوتْ به راحلته قائمة، وفي رواية: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا صلّى بالغداة بذي الحليفة أمَرَ براحلته فَرُحِّلَتْ، ثم ركب فإذا اسْتَوتْ به استقبل القبلة قائمًا، ثم يُلَبِّي حتى يبلغ الحَرَم ثمّ يُمْسك.

إهْلال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم 

وفي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أنّ إهْلال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذِي الحُليفة حين اسْتوت به راحلته. رواه البخاري، وقوله: «أَهَلَّ، فَقَال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ،...». فيه: أنّ السُّـنَّة رفعُ الصّوت بالتلبية بالنّسبة للرِّجال. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: صَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظّهر أربعًا، والعصر بذي الحُلَيفة ركعتين، وسمعتُهم يصْرُخُون بهما جميعًا. رواه البخاري، قال ابن حجر: قوله: «وسمعتهم يَصرخون بهما جميعاً» أي: بالحج والعمرة، ومراد أنس بذلك: من نَوى منهم القِران، ويحتمل أنْ يكون على سبيل التوزيع، أي بعضهم بالحج، وبعضهم بالعمرة، قاله الكرماني. ويُشْكِل عليه قوله في الطريق الأخرى، يقول: لبيك بحجة وعمرة معاً. اهـ. وفي رواية للبخاري: قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ معه بالمدينة الظهر أرْبعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثمّ بات بها حتى أصبح، ثمّ ركبَ حتى اسْتَوتْ به على البيداء، حَمِد الله وسَبّح وكَبّر، ثم أهَلّ بِحَج وعمرة، وأهلّ الناسُ بهما. وروى ابن أبي شيبة: عن بكر بن عبدالله المزني قال: كنتُ مع ابن عمر فَلَبّى حتى أسْمَعَ ما بينَ الجبلين، قال ابن حجر: إسناده صحيح.

رفع الصحابة أصواتهم بالتلبية

       وأخرج أيضًا: من طريق المطلب بن عبدالله قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أصواتهم بالتلبية، حتى تُبَحّ أصواتهم. قال ابن حجر: إسناده صحيح. وروى أيضًا: عن زيد بن خالد الجُهني قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: جاءني جبريل فقال: « يا محمَّدُ، مُرْ أصحابَكَ فليَرفَعوا أصواتَهُم بالتَّلبيةِ، فإنَّها مِن شعارِ الحجِّ». رواه ابن ماجة. وروى أيضا من طريق المسيب بن رافع قال: كان ابن الزبير يقول: التلبيةُ زينة الحج وقال ابن عباس: هي زينةُ الحاجّ. وروى عبدالرزاق: عن معمر عن الزهري عن سالم قال: كان ابنُ عُمر يَرْفعُ صَوته بالتلبية، فلا يأتِ الرَّوحاء حتى يَصْحَل صوته قال الخليل: صَحل صوتُه يصحل صَحْلاً، فهو أصْحل، إذا كانت فيه بُحّة. قال الخرقي: ويُستحب اسْتدامة التلبية، والإكثار منها على كل حالٍ، لا سيما إذا علا نشْزا، أو هبط وادياً، وإذا التقت الرفاق، وإذا غطى رأسه، وفي دُبر الصلوات المكتوبة. «المغني» (5/105). وبهذا قال الشافعي. قال ابنُ عبدالبر: أجْمعُ العُلماء على أنّ السُّنّة في المَرأة، ألا تَرفعَ صَوتَها، وإنّما عليها أنْ تُسْمِع نفسَها. «المغني (5/160).. فَخَرَجَتْ منْ جملة ظاهر الحديث، وخُصَّتْ بذلك، وبَقِي الحديث في الرّجال، قال ابنُ قدامة: وإنّما كُره لها رفعُ الصّوت، مُخافةَ الفِتْنة بها، ولهذا لا يُسنُّ لها أذانٌ ولا إقامة، والمَسْنُون لها في التّنْبيه في الصلاة: التّصفيق دُون التّسبيح.

متى يَقطع المُعتمِر التّلبية؟

       قال الإمامُ أحمد: يقطع المُعتَمِر التلبية إذا اسْتلم الرُّكن، قال ابن قُدامة في المغني (5/256): وبهذا قال ابنُ عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاووس والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال ابن عمر وعروة والحسن: يقطعها إذا دَخل الحَرَم. وحُكِي عن مالك: أنه إنْ أحْرمَ مِن المِيقات، قطع التلبية إذا وَصَلَ إلى الحَرم، وإنْ أحْرمَ بها مِنْ أدْنى الحِلّ، قطع التلبية حين يَرَى البيت. قال ابن قدامة: ولنا ما روي عن ابن عباس- يرفعُ الحديث- كان يُمْسِك عن التّلْبية في العمرة إذا اسْتلمَ الحَجَر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - اعْتمرَ ثلاث عُمَر، ولمْ يزلْ يُلَبّي حتّى اسْتلمَ الحَجَر.

التلبية إجابةٌ على العبادة

       ولأنّ التلبيةَ إجابةٌ للعبادة، وإشْعار للإقامة عليها، وإنّما يتركها إذا شَرَعَ فيما يُنافيها، وهو التّحللُ منْها، والتّحلل يحصل بالطواف والسعي، فإذا شرع في الطواف فقد أخَذ في التّحلّل، فينبغي أنْ يقطع التلبية، كالحجّ إذا شَرَع في رمي جَمرة العقبة لحصول التحلل بها، أمّا قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها، والله أعلم. اهـ. وقال ابن عبدالبر: اخْتَلَف العُلماء في قطع التلبية في العُمرة. وقال مالك في موطئه- على ما ذكره ابن قدامة- وأضافَ ذلك إلى ابن عمر وعروة بن الزبير. وقال الشافعي: يقطع المُعْتمر التلبية في العُمرة، إذا افتتح الطّواف. وقال مرة: يُلَبِّي المعتمر حتى يستلم الرُّكن، وهو شيءٌ واحد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يزال المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف. قال أبو عمر: لأنّ التلبية استجابةٌ لمَا ذكر إليه فرضَاً أو نَدْبا، فإذا وصَلَ إلى البيت قَطَع الاسْتجابة، والله أعلم، وهؤلاء كلُّهم لا يُفَرِّقُون بين المُهِلّ بالعمرة، بعيد أو قريب. اهـ. قالَ نَافِعٌ: كَانَ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ والرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، والعَمَلُ. وهذهِ الزِّيادةُ مِن قَولِ ابن عُمرَ - رضي الله عنه -، وقدْ ورَدَ عن بَعضِ الصَّحابةِ زِياداتٌ أُخْرى في التَّلبيةِ، وهيَ مِن بابِ الزِّيادةِ في الخيرِ، وقد ورَدَ في الصَّحيحَينِ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ يُنكِرُ على أحدٍ من أصْحابِه شيئاً منْ إهْلالِه. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: لبيكَ حقاً، تعبداً ورِقًّا، قال القاضي: قال أكثر العلماء: المُسْتحبُ الاقْتصارُ على تلبية رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبه قال مالك والشافعي. نقله النووي. قوله: «وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ» أي: بِيَدِك الخيرُ كلّه، كما في قوله -تعالى-: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26).

صِفة «اليَد» لله -عَزّوجَلّ

        وكما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنّه كان إذا قامَ إلى الصلاة قال: «وَجَّهْتُ وَجْهي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا، وما أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَرِيكَ له، وبِذلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ،... وفيه: لبيكَ وسَعديك، والخَيرُ كلُّه في يَديك، والشَّرُّ ليسَ إليك، أَنَا بكَ وإلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ...». رواه مسلم وأهل السُّنّة: يُثبِتون بمثل هذه النُّصُوص صِفة «اليَد» لله -عَزّ وجَلّ. ومعنى «والرغباء إليك»: قال المازري: يُرْوى بفتح الراء والمدّ، وبضم الراء مع القصر، ونظيره: العُلا والعلياء، والنّعمى والنَّعْماء. قال القاضي: وحَكَى أبو علي فيه أيضًا الفتح مع القصر: الرَّغْبَى مثل سَكْرَى، ومعناه هنا: الطّلب والمسألة إلى مَنْ بيده الخير، وهو المقصود بالعمل، الْمُسْتَحِقّ للعبادة. اهـ (النووي).    

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك