شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الإحْرام مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ ذي الْحُلَيْفَةِ
- أخَذَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عَنهم مَناسِكَ الحجِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ كما أمَرَهم بذلك وبَلَّغوا مَن بَعدَهم فلم يتركوا شيئاً صغيراً كان أو كبيراً
عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رضي الله عنه - يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ، الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فِيها، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - إِلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ. يَعْنِي ذَا الْحُلَيْفَةِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/843) باب: أمْرُ أهلِ المَدينة بالإحْرام منْ عند مسجد ذي الحُلَيفة، عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ وهو الإمام الزاهد، الحافظ، مُفْتي المدينة، أبو عمر وأبو عبدالله، القرشي العَدَوي، المَدني، وأمّه أم ولد. مولده في خلافة عثمان. حدث عن أبيه فجوّد وأكثر، وعن أبي هريرة وأبي أيوب وعائشة وغيرهم.
قال ابن عيينة: دخل هشام الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبدالله، فقال: سَلْني حاجة. قال: إنّي أسْتحيي مِنَ الله أنْ أسأل في بيتِه غيره؟ فلما خَرجَا قال: الآن فَسْلنِي حاجة، فقال له سالم: منْ حَوائج الدنيا، أمْ مِنْ حَوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. قال: والله ما سألتُ الدنيا مَنْ يملكها، فكيفَ أسألها من لا يملكها. (السير) (4/458). توفي سنة ست ومائة.قوله: «بَيْدَاؤُكُمْ هذه»
قوله: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رضي الله عنه -، وهو الصحابي عبدالله بن عُمر بن الخطاب، وقوله: «بَيْدَاؤُكُمْ هذه» البيداء القَفْر الخَالي عن العِمْران والأثر، ويقال لها: مَفازة من باب التّفاؤل، وإلَّا فهي في الأصْل مَهْلكة، وكلّ مفازةٍ بيداء، وهي في الحديث: مفازة أمام ذي الحليفة بين مكة والمدينة، أولها شَرَف مرتفع قريب منْ مسجد ذي الحليفة، فيُخبِرُ سالمُ بنُ عبداللهِ بنِ عمرَ أنَّ أباه عبداللهِ - رضي الله عنه - كان إذا قِيلَ له: إنَّ رفعَ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ في الحَجِّ أو العُمرةِ يَبدأُ منَ البَيداءِ، يُنكِرُ ذلك.قوله: «الَّتِي تَكْذِبُونَ»
قوله: «الَّتِي تَكْذِبُونَ» المَقصود هنا تُخْطئُون، والكذب: الإخْبار عن الشّيء على خلافِ ما هو عليه، فإنْ كان مع العَمْد فهو الكذبُ المَذموم، وإنْ كان منْ غير قصدٍ مع سَهْو وغلط، فهو الخطأ، وهو المَقصُود في حديث الباب، وهذا يُؤخَذ منه أنّ الإخْبار بخلافِ الواقع، يُسمَّى كذباً على كلّ حال، لكنه إذا وقع خَطأً مِنْ غير عَمْد، فلا يأثم، وإن كان من عمد، فهو الكذبُ الذي يأثمُ به صاحبه وهو المشهور اليوم». انظر: (المفهم) الحج، باب: بيان المَحلّ الذي أهلَّ منه رسُول الله». حديث (1056). قوله: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ» يعني: مسجد ذي الحُليفة، لأنّ «ألْ» في قوله: «المسجد» ألْ العَهْدية، والمَعهُود هو مسجد ذي الحليفة، ومَسجدِ ذي الحُلَيْفةِ، بيْنَه وبيْنَ المدينةِ سِتَّةُ أمْيالٍ أو سَبْعةٌ (10 كم تقريبًا)، وهي مِيقاتُ أهْلِ المدينةِ، وكذا مَنْ مَرَّ بها مِنْ غيرِ أهْلِها، وفي الرواية الأخرى: «إِلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ»، والمراد: الشّجرة التي كانت عند المسجد، وقوله: «أَهَلَّ» منَ الإهْلال، وتقدَّم أنّ معناه رَفْعُ الصّوت بالتّلْبية.سَببُ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضِي اللهُ عنهم- في المواضِعِ
ولعلَّ سَببَ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضِي اللهُ عنهم- في المواضِعِ الَّتِي أهَلَّ منها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ كُلًّا منْهم أخبَرَ بما رأَى، فالنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - خرَجَ مِنَ المدينَةِ حاجّاً، فلمَّا صلَّى في مَسجدِ ذِي الحُلَيْفةِ أهَلَّ بالحَجِّ، فسَمِعَ ذلك منه أقْوامٌ فحَفِظُوا عنه، ثُمَّ رَكِبَ، فلمَّا استَقلَّتْ به ناقتُه أهَلَّ، وأدرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، لأنَّهمْ كانوا يَأْتُونَ جَماعاتٍ، فسَمِعوه فقالوا: إنَّما أهَلَّ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - حِينَ اسْتَقلَّتْ به ناقتُه، ثُمَّ مَضَى رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ أهَلَّ، وأدْرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، فقالوا: إنَّما أهَلَّ حينَ عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ، فنقَلَ كلٌّ مِنهم ما سَمِعَ، وظهَرَ بذلك أنَّ الخِلافَ وقَعَ في ابتدَاءِ الإهْلالِ والإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ. ويُؤيد هذا: ما رَواه أبو داودَ: عنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- قال: «وأيمُ اللهِ، لقدْ أوجَبَ في مُصلَّاه، وأهَلَّ حينَ اسْتقَلَّتْ به ناقتُه، وأهَلَّ حينَ عَلا على شَرَفِ البَيداءِ». وهذا واضح والحمدلله.فوائد الحديث
1- بيان مَوضع إهْلال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه أهلَّ من المَسْجد. 2- ميقات ذي الحُليفة، إنّما هو مِنَ المَسْجد، لا مِنَ البَيداء التي بعده، قال النووي -رحمه الله-: «وفيه دلالةٌ على أنّ ميقاتَ أهلِ المدينة منْ عند مسجدِ ذي الحليفة، ولا يَجوزُ لهم تأخيرُ الإحْرام إلى البَيداء، وبهذا قال جميع العلماء». (شرح النووي). 3- فيه دلالة على أنّ الإخْبار بخِلافِ الواقع، يُسمَّى كذِباً وإنْ كان وَقَع سَهْواً، وهذا منْ حيثُ العُموم، وإلَّا فالكذبُ المَذموم في النُّصُوص هو الذي يقع عن عَمْد، فهو الذي يَحْرُم، ويأثم به صاحبُه. 4- أخَذَ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عَنهم- مَناسِكَ الحجِّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، كما أمَرَهم بذلك، وبَلَّغوا مَن بَعدَهم، فلم يتركوا شيئاً صغيراً كان أو كبيراً.الإسلا م هو الدِّينُ الحق
قال -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام} (آل عمران:19). وقال -تعالى-: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:84-85). وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102). وقال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64). وقال -تعالى-: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام: 125-126). وقال -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78). وقال -تعالى-: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الزمر:22). وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33).- والإسلام ناسخٌ لجميع الشرائع من قبل، وهو محفوظ من التبديل والتغيير أو النقص؛ وذلك لكونه الخاتم، فتكفَّل الله بحفظه.
- وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ -عز وجل- إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ».
- وفي رواية: « يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى»، (رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه ).
- وفي رواية: «والذي نفْسُ محمدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يَهُوديٌّ ولا نصرانِيٌّ ثم يموت ولم يؤمنْ بالذي أُرْسِلتُ به إلا كان من أصحاب النار».
لاتوجد تعليقات