شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم – باب: في تَحْسِين كفن الميت
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ؛ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ؛ وقُبِرَ لَيْلًا؛ فَزَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ؛ حَتَّى يُصَلَّى عليْه؛ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلك»، وقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؛ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ».
الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز (2/651)، وبوب النووي عليه بمثل تبويب المنذري، وقوله: «أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبَ يوما» إما أنْ يكون ذلك في خُطبة الجمعة، أو خطبهم في يوم من أيام الأسبوع.
قوله: «فذكر رجلا من أصحابه قُبض» أي: قبضه الله وتوفّاه، «فكفّن في كفنٍ غير طائل» غير طائل أي: حقير، غير كامل الستر.
قوله: «وقُبر ليلاً» أي: دفن بالليل.
وقوله: «فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ؛ حتى يصلى عليه» يُصلى: هو بفتح اللام.
النهي عن القبر ليلاً
وأما النهي عن القبر ليلاً حتى يصلى عليه: فقيل: سببه أنَّ الدفن نهاراً يحضره ناسٌ كثيرون؛ ويصلون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفرادٌ قليلون. وقيل: لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن؛ فلا يبين في الليل، ويؤيده أول الحديث وآخره، قال القاضي: العلتان صحيحتان، قال: والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدهما معا.
حُكم الدفن في الليل
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا أنْ يضطر إنسان إلى ذلك» دليل أنه لا بأس به في وقت الضرورة، وقد اختلف العلماء في حُكم الدفن في الليل: فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة، وهذا الحديث مما يستدل له به، وقال جماهير العلماء من السلف والخلف: لا يكره، واستدلوا بأنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، وجماعة من السلف؛ دُفنوا ليلا من غير إنكار، وبحديث المرأة السوداء، أو الرجل الذي كان يَقُمُّ المسجد، فتوفي بالليل فدفنوه ليلا، وسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: تُوفي ليلا فدفناه في الليل، فقال: «ألا آذنتموني؟» قالوا: كانت ظلمة، ولم ينكر عليهم.
وأجابوا عن هذا الحديث: أن النهي كان لترك الصلاة، ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل، وإنما نهى لترك الصلاة، أو لقلة المُصلين، أو عن إساءة الكفن، أو عن المجموع كما سبق.
وقال النووي: في دفن فاطمة ليلًا «جواز الدفن بالليل، وهو مجمعٌ عليه، لكن النهار أفضل؛ إذا لم يكنْ عذر». انتهى.
الدفن في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
وأما الدفن في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ والصلاة على الميت فيها، فهو مما ثبت أيضاً: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ثلاث ساعات، من حديث عقبة بن عامر عند مسلم -رحمه الله-، قال عقبة بن عامر: ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُصلي فيهن، وأنْ نقبرَ فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزولَ الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب».
هذه الثلاث ساعات: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قِيد رمح، وعند قيامها قبيل الظهر حتى تزول، قبل الظهر بقليل، وعند غروبها عند انحدارها للغروب، وتضيفها للغروب واصفرارها، حينها في هذه الحال لا يصلى على الميت ولا يدفن.
قوله: «فليُحَسن كفنه»
وقوله: «فليُحَسن كفنه» ضبطوه بوجهين: فتح الحاء وإسْكانها، وكلاهما صحيح. قال القاضي: والفتح أصوب وأظهر وأقرب إلى لفظ الحديث، وفيه: الأمر بإحسان الكفن. قال العلماء: وليس المراد بإحسْانه السَّرف فيه، والمغالاة ونفاسته، وإنما المراد: نظافته ونقاؤه، وكثافته وستره، وتوسطه، وكونه من جنس لباسه في الحياة غالبا، لا أفخر منه، ولا أحقر.
فوائد من الحديث
- أن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان حريصًا عَلى تَعليمِ أُمَّتِه الآدابَ الشَّرعيَّةَ كلَّها، في جميع شئون الحياة، وهنا يُرشدُ - صلى الله عليه وسلم - إلى بعضِ الآدابِ الخاصَّةِ بالمَوتى، مِثلَ إِحسانِ الكفنِ، وعدمِ الدَّفنِ ليلًا إلَّا للضَّرورةِ.
- وفيه: الزَّجرُ عنِ الدَّفنِ ليلًا، إلَّا في حالةِ الضَّرورةِ.
وفيهِ: أنَّ الأَفضلَ تَكثيرُ النَّاسِ في الصَّلاةِ عَلى الميِّتِ، بإعلامهم بموته وتذكيرهم بالصلاة عليه.
وفيه: الأَمرُ بإِحسانِ الكَفنِ؛ مِن غيرِ إِسرافٍ ولا تَقتيرٍ فيه.
باب: الإسْراع بالجنازة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ؛ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ - لَعَلَّهُ قَال: تُقَدِّمُونَهَا عَلَيْهِ - وَإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ».
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز ( 2/651-652)، وبوب النووي عليه بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الجنائز (1315) باب: السُّرعة في الجنازة.
قوله «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ»
فهِم كثير من الفقهاء أنَّ هذا الحديث دليلٌ على الإسراع بالجنازة، يعني: إذا حملوها فإنهم يسرعون في المشي، ولا يصل الإسراع إلى الخبب الذي هو السعي الشديد، بل سرعة المشي وإن لم يكن سعيًا , فيقولون: المشي رويدًا مكروه، والسعي الذي يصل إلى الخبب مكروه، والإسراع - وهو وسط - هذا هو المستحب.
وقال العيني: «أسرعوا بالجنازة» إسراعًا خفيفًا، بين المشي المعتاد والخبب، لأنّ ما فوق ذلك يؤدّي إلى انقطاع الضعفاء، ومشقة الحامل، فيُكره، وهذا إنْ لم يضره الإسراع، فإنْ ضرّه فالتأني أفضل، فإنْ خيف عليه تغير أو انفجار أو انتفاخ، زيد في الإسراع انتهى.
وقيل: المقصود بقوله «أسْرعوا بالجنازة»؛ يعني: الإسراع بتجهيزها؛ وذلك لأنه علّل وحث على سرعة التجهيز، بقوله: «تضعونه عن رقابكم»، ومعلوم أنه ليس كل الذين يهمهم أمر الميت يحملونه، إنما قد يحمله مثلاً أربعة أو أكثر، والبقية لا يحملونه، فكيف قال: «تضعونه عن رقابكم «وهم لا يحملونه؟ ولم يقل: يضعه بعضكم، أو يضعه مَنْ حمله عن رقبته؟!
المراد: التجهيز
فدلَّ على أنّ المراد: التجهيز؛ أي: أسْرعوا بتجهيز الجنائز، ولا تؤخروها، فإنها إذا كانت صالحة قدّمتموها إلى خير، وهو ما تلقاه في البرزخ من النعيم، وإذا كانت غير ذلك - أي غير صالحة - فهو واجبٌ أنتم مُلزمون به ويهمكم؛ فتضعونه عن رقابكم، بمعنى أنكم تنتهون منه وتستريحون، وتنجزونه وتسلمون من مسؤوليته، فكأنكم وضعتم شيئًا قد حملتم همَّه على رقابكم، وذلك بتجهيزكم لهذا الميت، ودفنكم له؛ يدل على هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لجيفةِ مُسْلم؛ أنْ تُحْبس بين ظهراني أهله». رواه أبو داود.
الأصل المبادرة
فدل على أن المراد: بعد موته لا يُؤخر؛ بل يبادر به، هذا هو الأصل، لكن يجوز تأخيره لحاجة. وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة، فاستثنوا إذا مات فجأة أنه يؤخر إلى أنْ يتحقق موته؛ لأنه قد يكون أصابه سكتة أو غشية أو إغماء، ولا يكون ميتًا، بل يكون حيًّا، وكم قد حصل من ذلك؟!
ذكروا أنَّ ميتًا أو نعشًا مُرّ به على أناسٍ جالسين، وقد حمل على النعش، فقال بعض الجالسين: إن هذا المحمول حي، قالوا: قد كيف يكون حيًّا؟ وقد غُسّل وكُفن ووضع على النعش، وحُمل وذُهب به إلى المقبرة؟! فقال: إنه لا يزال حيًّا، فأُخبروا بذلك، فانتظروا وإذا هو قد أفاق، فسألوه: كيف عرفت أنه حي؟ فقال: رأيت قدميه قائمتين! يعني: أنه قد وقفت قدماه، والميت قدماه تمتد. فاستنبط من وقوف قدميه أنه لا يزال فيه حياة.
فلهذا لا يسرع به إذا كان مثلاً موته فجأة، أما إذا تحقق موته؛ فإنه يسرع به، والله أعلم.
قوله: «فإنْ تك» أي: الجنازة «صالحة» نصب خبر كان «فخير» أي: فهو خير، خبر مبتدأ محذوف «تقدمونها» زاد العيني كابن حجر: «إليه» أي: إلى الخير، باعتبار الثواب، أو الإكرام الحاصل له في قبره، فيسرع به ليلقاه قريبًا.
قوله: «وإن تك» الجنازة «سوى ذلك» أي: غير صالحة «فشر» أي: فهو شر «تضعونه عن رقابكم» فلا مصلحة لكم في مصاحبتها؛ لأنها بعيدة من الرحمة.
لاتوجد تعليقات