شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(47) من نوقش العمل ُعذّب
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب: في قوله تعالى {فسوف يحاسب حساباً يسيراً}
2175. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ « فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فَقَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ».
الشرح: سورة الانشقاق باب في قوله تعالى {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} وأورد فيه المنذري حديث عائشة وهو عند الإمام مسلم في كتاب صفة يوم القيامة باب إثبات الحساب. وأخرجه البخاري في العلم (103).
تقول عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من ُحوسب يوم القيامة عذّب» وفي الرواية الأخرى: «من نوقش الحساب» من المناقشة وأصلها الاستخراج، ومنه نقش الشوكة إذا استخرجها.
وقوله «عذب» قال القاضي عياض: «عذب» له معنيان: عذب بنفس المناقشة وعرض الذنوب وطول التوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ.
والثاني: أنه مفض إلى العذاب بالنار، انتهى.
فالقول الأول يعني أن هذا التوبيخ والتوقيف نفسه هو عذاب له بين يدي الله تعالى، لشدته على النفس وصعوبته، والمعنى الثاني: أن من حصلت معه المناقشة، فهذا دليل على هلاكه وعذابه، كما في الرواية الأخرى: «من نوقش الحساب يوم القيامة هلك». والإمام النووي رحمه الله اختار المعنى الثاني، وهو أن من علامات هلاك العبد يوم القيامة أن يناقش بأعماله، لم فعلت كذا؟ فيرد ويدافع عن نفسه، ثم يقال له: ألم تفعل كذا؟ فيرد، فإذا حصلت هذه المناقشة مع العبد، فهذا دليل عذابه، فمن استقصى الله تعالى عليه أعماله وذكرها له، ولم يسامحه ويعفو عنه، فقد هلك ودخل النار، أما من عرضت عليه بعض ذنوبه، ولم يتكلم ويجادل وإنما هو مستحي من ربه سبحانه وتعالى، فهذا الذي يعفو الله تبارك وتعالى عنه ويغفر له، لأنه سكت واستحى من ربه ولم ينكر شيئاً مما عرض عليه.
وجاء في الحديث: «أن الله سبحانه وتعالى يعرض على عبده يوم القيامة صغار ذنوبه، ويؤخر عنه كبارها، فيقال له: فعلت كذا يوم كذا وكذا، وهو يقول: أي رب، ثم يقول الله تعالى: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فعند ذلك يقول العبد: إن لي ذنوباً لا أراها هاهنا» رواه مسلم.
لأن ذنوبه وسيئاته التي ذكرت له بدّلت إلى حسنات، فيطمع لو أن كل ذنوبه يراها لتتحول إلى الحسنات ويجازى بها.
فهذا هو الحساب اليسير الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، أي: السهل اللين والذي لا مناقشة فيه، ولا خصام مع الرب سبحانه وتعالى، لأن من نوقش الحساب عذب، أما هذا الذي لا يناقش تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له.
قالت عائشة رضي الله عنها: أليس الله تعالى قد قال: {فسوفَ يُحاسبُ حساباً يسيراً} دليل على أن الصحابة - ومنهم أمهات المؤمنين - كانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم ، ويستفسرون منه في الأمور التي تُشكل عليهم، وأنه ما كان يتضجر منه عليه الصلاة والسلام، وأن هذا لا ينافي كمال الأدب معه صلى الله عليه وسلم .
وقد وقع مثل ذلك لحفصة رضي الله عنها، فقد ورد في الحديث: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَدخلُ النارَ أحدٌ ممن شَهِد بدراً» قالت: أليس الله يقول {وإنْ منكم إلا وَاردها} قال: « ثم قال {ثم نُنجي الذين اتقوا} الحديث.
وإذا كان هذا لا ينافي الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمن باب أولى أنه لا يمنع مراجعة العالم والشيخ في شيء مما قاله، فإذا قال شيئا وأشكل على السامع والطالب، فانه ليس عيباً أن يستفسر منه، إذا تعارض مع شيء من الأدلة في ذهنه، ويكون ذلك بأدب وتوقير واحترام، وعدم رفع للصوت، ونحوه مما ذكره أهل العلم في آداب العالم والمتعلم، كما في كتاب السمعاني «أدب الإملاء والاستملاء» وكتاب «تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم» لابن جماعة وغيرهما.
أما من سأل تعنتاً أو عناداً أو تشكيكاً، فإنه يجوز الإعراض عن سؤاله، وترك جوابه، كما قال تعالى {وأما الذينَ في قُلُوبهم زيغٌ فيتبعونَ ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأْويله} قال صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تَشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم». وكما في قصة صبيغ مع عمر رضي الله عنه.
قوله «إنما ذلك العرض» أي: عرض الأعمال على الميزان أو على الله تعالى.
وورد عند الإمام أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه: قالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حساباً يسيرا» فقلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ فقال: «أن ينظرَ في كتابه فيتجاوز له عنه، إنّه مَن نُوقش الحسابَ هَلَك».
بقي أن نقول: إن هذا الحديث مما استدركه الإمام الدارقطني على الإمام البخاري ومسلم، يعني أن في إسناده نظرا! لأن الحديث من رواية عبد الله بن أبي مليكة التابعي الجليل عن عائشة رضي الله عنها، وقال: إن رواية عبد الله ابن أبي مليكة عن عائشة فيها انقطاع، وذلك لأن عبد الله بن أبي مليكة روى هذا الحديث عن القاسم بن عبد الرحمن عنها، لكن قال أهل العلم: استدراك ضعيف ! لأنه محمول على أن ابن أبي مليكة سمعه من القاسم بن عبدالرحمن بن أبي بكر، يعني من ابن أخيها عنها، ثم سمعه منها فرواه بالوجهين مرة من هذا الطريق، ومرة من ذاك الطريق، وهذا له نظائر كثيرة في الأحاديث، فالحديث إذن ثابت الإسناد وصحيح، وكفاك بإخراج البخاري ومسلم له.
وفي الحديث: جواز المناظرة في العلم لمعرفة الحق والصواب.
وفيه: فضل عائشة رضي الله عنها وما كان عندها من الفهم لكتاب الله، والعلم به.
سعي الناس مختلف
سورة {والليل}
باب في قوله تعالى {والذكر والأنثى}
2176. عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَدِمْنَا الشَّامَ فَأَتَانَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ أَنَا، قَالَ: فَكَيْفَ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى , وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى} قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ أَقْرَأَ {وَمَا خَلَقَ} فَلَا أُتَابِعُهُمْ.
الشرح: سورة الليل باب في قوله تعالى {والذَّكر والأنثى} وروى فيه حديث أبي الدرداء الذي رواه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب القراءات.
يقول علقمة وهو ابن قيس النخعي ثقة ثبت فقيه، قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء رضي الله عنه فقال: أفيكم أحد يقرأ على قراءة عبدالله؟ فقلت: نعم أنا «وفي رواية: قال أبو الدرداء: هل فيكم أحد من أهل العراق؟ قال علقمة: نعم أنا، قال: من أيهم؟ قال: من أهل الكوفة، قال: فكيف سمعت عبدالله يقرأ هذه الآية {والليل إذا يغشى} قال: سمعته يقرأ {والليلِ إذا يغشى, والنهارِ إذا تجلى, والذكر والأنثى} فقال أبو الدرداء: وأنا هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها، ولكن هؤلاء يريدون أن اقرأ {وما خَلقَ الذّكر والأُنثى} فلا أتابعهم.
هذا الأثر عن أبي الدرداء فيه بيان لقراءة من القراءات في قوله تبارك وتعالى من سورة الليل {وما خلقَ الذكر والأنثى} فكان عبدالله بن مسعود وأبوالدرداء كما في الحديث يقرءان هذه الآية {والذكر والأنثى} دون (وما خلق) واختلف العلماء في توجيه هذه الرواية فقال المازري: يجب أن يعتقد في هذا الخبر وما في معناه أن ذلك كان قرآنا ثم نسخ ولم يعلم من خالف بالنسخ، فبقي على المنسوخ.
ومعنى قوله: أن هذا كان قرآنا ثم نسخ، وهذه القراءة لم يعلم بالناسخ، فبقي على قراءته القديمة، ولا شك أن العلماء ذكروا شروطاً لقبول القراءات وهي:
أولا: أن تكون متواترة، فلا تقبل رواية الآحاد من الصحابة أو غيرهم.
ثانيا: يجب أن توافق مصحف عثمان الذي جمع عليه الصحابة وهو ما يسمى بالرسم العثماني.
ثالثا: ألا تخالف الرسم العثماني المكتوب في المصاحف.
وما كان بخلاف ذلك فهو من الشاذ من القراءات، فلا يقرأ به في الصلوات. وقال بعض أهل العلم: إن المنقول عن ابن مسعود روايات فيها مخالفة لبعض آيات المصحف، فقال بعضهم: إن ابن مسعود كان يكتب أحيانا بعض التفسير من الآيات ويراه من يقرأه فيظنه قرآنا ولهذا كان رأي عثمان رضي الله عنه وجماعة الصحابة المنع من كتابة شيء في المصحف لئلا يتطاول الزمان ويظن بعض الناس أنه قرآن، لكن الآن لما كتبت المصاحف وشاعت وذاعت وأصبح الرسم محفوظا، فانه يجوز للإنسان أن يكتب على مصحفه الخاص ما يشاء من التفسير أو البيان.
وأيضا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه. وقيل: إنه اعتقد أول الأمر أنهما نزلتا للتعويذ وليستا من القرآن، ثم بعد ذلك عاد إلى الجماعة، وأثبت المعوذتين في مصحفه، وعلى كل حال فهذا رأي لابن مسعود خالف فيه الجماعة من الصحابة، وخالف فيه ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذا لا يؤخذ بقوله.
أما قول الله تبارك وتعالى {والليلِ إذا يَغشى} فهو قسمٌ بالليل إذا غشى الوجود، وغطى الأرض بظلامه ما كان مضيئاً من ضوء النهار {والنّهار إذا تجلى} يعني: إذا ظهر النهار وانكشف وأضاء الأرض {وما خلق الذكر والأنثى} أي إن الله سبحانه وتعالى هو خالق الذكر والأنثى، وهما ضدان مختلفان، وهكذا خلق الله تعالى الليل وضده هو النهار، فالله سبحانه يمتدح بخلقه للأضداد.
وقال أهل العلم: لم يذكر الله سبحانه وتعالى الخنثى المشكل، وهو الذي لا يعلم هل هو ذكر أو أنثى؟! والجواب: إن الخنثى وإن أشكل أمره عندنا، فإنه عند الله عز وجل غير مشكل، بل هو معلوم بالذكورة أو الأنوثة.
ومن المسائل في ذلك: أن من حلف على ألا يكلم ذكرا أو أنثى، فإذا كلم خنثي هل يحنث أم لا؟ قالوا: يحنث لأنه إما أن يكون ذكرا أو أن يكون أنثى، فلا يوجد جنس ثالث كما يقولون اليوم؟! إنما هناك تشبه من الرجال بالنساء، ومن فعل ذلك فهو ملعون مطرود من رحمة الله سبحانه وتعالى، فمن تعمد التشبه في بالنساء بالحركات أو الأقوال أو المشية، فهذا والعياذ بالله ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك المرأة إذا تشبهت بالرجال، أو ما يسمى: بالرجلة من النساء! فهي أيضاً ملعونة مطرودة من رحمة الله عز وجل، كما جاء في الأحاديث، إلا من تاب وآمن واستقام، لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق من ذوي الأرواح إلا من هو ذكرٌ أو أنثى، ولا يوجد شيء ثالث، ومن فعل فهو تغيير لخلق الله، وطاعة للشيطان القائل {ولآمرنّهم فليُغيرن خلق الله} (النساء).
وأيضا قال الله تبارك وتعالى {يَهبُ لمن يَشاء إناثاً ويهب لمن يشاءُ الذكور, أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} ولم يذكر نوعاً ثالثاً.
وهذا القسم وهو {والليل إذا يغشى, والنهار إذا تجلى , وما خلق الذكر والأنثى} وهذا كله قسم من عند الله عز وجل بهذه الأمور، ثم جواب القسم قول الله تبارك وتعالى {إنّ سعيكم لَشَتى} هذا هو المقسم عليه، والسعي هو الكسب والعمل، أي: إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمن الناس من يكون عمله موصلاً له إلى الجنة، بالإخلاص والمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، والهمة العالية والنشاط، ومنهم من يكون عمله إلى النار، بالشرك والرياء، والبدع والمنكرات والآثام، فسعي الناس شتى يعني متنوع ومختلف، وقد فسره الله تعالى بعد ذلك وفصّله بقوله {فأما مَن أَعطى واتقى, وصَدّق بالحسنى, فسنُيسره للحسنى, وأما من بخل واستغنى, وكذّب بالحسنى, فسنيسره للعُسرى} وهو كله وصف لأعمال العاملين وسعيهم.
وفقنا الله جميعا للعلم النافع، والعمل الصالح، إنه سميع مجيب.
لاتوجد تعليقات