شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(37) باب في سورة النور
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2154. عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ [، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : «اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ» فَأَتَاهُ عَلِيٌّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : اخْرُجْ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ [ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ [ إِنَّهُ لَمَجْبُوبٌ مَا لَهُ ذَكَرٌ.
الشرح : هذا باب من سورة النور أيضا، وأورد فيه حديثاً عن أنس ]، وقد أخرجه الإمام مسلم في آخر كتاب التوبة، وبوب عليه النووي باب : براءة حرم النبي [ من الرّيبة.
- قال عن أنس ]: « أن رجلا كان يُتهم بأم ولد رسول الله [» يعني كان يتهم بالدخول على أم ولد النبي [، أي شوهد أنه يدخل عليها في بيتها، وأم الولد هي الجارية المملوكة إذا ولدت لسيدها، وهذه الجارية هي «مارية » التي أهداها المقوقس صاحب الإسكندرية في مصر في زمنه مع أختها سيرين، وذلك سنة سبع من الهجرة للنبي [، فكان يطؤها بملك اليمين، فولدت له ابنه إبراهيم عليه السلام، فصارت أم ولده ( انظر الإصابة لابن حجر 4/185 ).
- فقال رسولُ اللَه [ لِعليٍّ : «اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ» وهذا يدل على أن من حصل منه إيذاء للنبي [ بأي صورة من الصور، سواء كان لعرضه [ أم لأهله فإنه مستحقٌ للقتل؛ ولذلك قال أهل العلم : من قذف نبياً من الأنبياء فانه يكفر؛ لأن هذا فيه مهانة وغضاضة على النبي من أنبياء الله، وكذلك من اتهم نبياً في عرضه، أي في زوجة من زوجاته، اتهمها بالفاحشة فإنه يُقتل؛ لأن هذا في غضاضة أيضا لمقام النبوة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب : 53).
- أي : ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله [ بأي نوع من أنواع الإيذاء، ومنها أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، أي تتزوجوا بهن، فإذا كان نكاح زوجات النبي [ بعد موته محرما - وهذا من باب حماية فراش الرسول [ والبعد عن تدنيسه - فكيف إذا تعرض شخصٌ لعرض النبي [ أو اتهمه بفاحشة أو بشيء ؟! إلا من اتهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فإنه يكفر بالاتفاق؛ لأن من اتهم عائشة رضي الله عنها بشيء بعد نزول براءتها فهو مكذّب لله، والمكذب لله كافر مرتد بلا شك.
وكذلك من اتهم غيرها من زوجات النبي [، فإنه يكفر.
وهكذا من اتهم أم نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنه يكفر، كما فعلت اليهود، وذلك أنهم اتهموا مريم عليها السلام بالفاحشة، فكفّرهم الله عز وجل، فقال فيهم: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} (النساء : 156)، فحكم عليهم بالكفر وقول البهتان العظيم، والله سبحانه وتعالى يقول عنها مدحا: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } (الأنبياء : 91)، فالله سبحانه وتعالى قد برّأ مريم عليها السلام من كل سوء ومن كل فاحشة، فمن ادعى عليها القبائح بعد ذلك، فإنه كافرٌ مرتد يضرب عنقه.
وقد قال رجل من النصارى للإمام الأوزاعي : إن زوجة نبيكم قد اتهمت بالزنى؟!
- فقال له : هما امرأتان اتهمتا، فدافع الله عنهما في كتابه، أولهما مريم أم عيسى عليهما السلام، وثانيهما : عائشة رضي الله عنها زوج النبي [، فبهت النصراني؟!
فلما شوهد هذا الرجل يدخل على مارية أم ولد النبي [، اتهم بها، فقال النبي [ لعلي : «اذهب فاضرب عنقه» أي اذهب فاقتله.
- قوله: «فجاءه علي فإذا هو في ركي يتبرّد فيها» والرّكي هي البئر التي بُنيت، فالبئر إذا بنيت بالحجارة فإنها تسمى ركيا، وجمعها: ركايا.
- وقوله: «يتبرد فيها» يعني أنه كان ينزل فيها ويجلس في الماء يتبرد به؛ لأن الجو حار؛ قوله: «فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر» أي جاءه علي ] وهو جالس في البئر، فأمره بالخروج منها، فلما خرج وكان عارياً ليس عليه ثياب.
- قوله: «فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر» والمجبوب هو مقطوع الذكر، وهو كما تعلمون لا يمكنه أن يجامع، وهذا يدل على أنه بريء من الزنى، وأنه لا يحصل منه جماع النساء ولا الزنى؛ ولهذا لا يستحق القتل.
ولهذا لما رآه علي كذلك، عرف أنه لا يستحق القتل، حتى ولو دخل على زوج النبي [، أو دخل على غيرها من بيوت النبي [، فإنه كالمخنّث الذي لا رغبة له في النساء، ولا يمكنه أن يفعل شيئا لأن ذكره لا يقوم خِلقةً، وهؤلاء يجوز دخولهم على النساء شرعا، كما قال الله تبارك وتعالى في بيان من يحل للمؤمنة أن تكشف زينتها أمامهم: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن} إلى قوله: {أوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } (النور : 31)، يعني الذين لا أَرب لهم في النساء، أي ليس لهم رغبة في النساء، وهذا رجل مجبوبٌ ليس له ذكر أصلا، وهو من باب أولى أنه يجوز دخوله عليهن، وهذا يدل على علم علي ] بأحكام الشرع وعقله وفقهه؛ ولذا كفّ عن قتله بهذه البينة الواضحة.
- ثم أتي النبي [ فقال : «يا رسول الله، إنه لمجبوب ما له ذكر» أي هذا يدل على انتفاء الزنى عنه، وهذه بينه واضحة في نفيه عنه.
وهكذا لو اتهم الإنسان بفاحشة الزنى، ثم قامت البينة الواضحة على براءته، لا يستحق الحد الذي وجب عليه؛ لأن هذا مما يدفع عنه حد الزنى، والتعرض لعرض النبي [، فلا يستحق القتل لا ردّة ولا حدّاً، والله أعلم.
باب في قول تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}.
2155. عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ يُقَالُ لَهَا : مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا : أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَى، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ [، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ:{غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الشرح: باب في قول تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} وأورد فيه حديث جابر [.
وهذا الحديث هو في آخر كتاب التفسير من صحيح مسلم.
وجابر [ هو جابر بن عبدالله بن حرام الأنصاري، صحابي جليل ابن صحابي، وهو ممن أكثر الرواية عن النبي [، فروى عنه أكثر من ألف حديث.
- قوله : «إن جارية لعبدالله بن أبي ابن سلول» وهو كبير المنافقين في المدينة، وقائل الأقوال الكفرية الخبيثة التي حكاها عنه القرآن، كقوله: {لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} (المنافقون : 7)، وقوله: {لئنْ رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل } (المنافقون : 8) وغيرها من الأقوال المروية عنه، التي تدل على نفاقه العقدي القلبي - والعياذ بالله تعالى - وهذا الرجل له أيضا أفعال وأخلاق سيئة وقبيحة، حتى بعد مجيء الإسلام للمدينة، فقد كان يعمل بأعمال الجاهلية؛ إذ كان له جوارِ أي إماء مملوكات له، ومنهن جاريتان يقال لإحداهما: مسيكة والأخرى أميمة، وكان يكرههما على الزنى بالأجرة ؟ كعادة أهل الجاهلية، وأهل الجاهلية لا خُلق ولا دين يمنعهم من ارتكاب الفواحش، فكان الرجل منهم يقول لجاريته : اذهبي وابتغي لنا، أي يرسلها لتزني بالأجرة لتأتيه بالمال، أو يضرب عليها ضريبة بأن تخرج له كل يوم كذا من المال، من أي سبيل تكسبه، هذا كان حال أهل الجاهلية كما قلنا، وقد قال النبي [: «ثمنُ الكلب خبيثٌ، ومهر البغي خبيث، وكسبُ الحجّام خبيث» رواه مسلم في المساقاة ( 3/1199).
وقال [: «شر الكسب مهر البغي...».
- وأيضا ورد في الحديث عن أبي مسعود الأنصاري : «أنه نهى [ عن ثمنِ الكلب، ومهرِ البغي، وحُلوان الكاهن » رواهما مسلم.
فمهر البغي هو ما تأخذه الزانية على الزنى، وسماه مهراً لكونه على صورته.
وحلوان الكاهن هو ما يدفع للكاهن مقابل الكهانة أو التكهن والرجم بالغيب، كأن يقول له : أنت ستسافر أو ستتزوج وسيحصل لك كذا وكذا، ويتكهّن له، فيعطيه مالاً مقابل هذه الكهانة، ومثله أصحاب الأبراج وتحليل الشخصية بالخط.
فمهر البغي هو الذي ورد ذكر منعه وتحريمه في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } (النور : 33)، فالبغاء هو الزنى يقال : بغت المرأة تبغي بغاء، إذا زنت وفجرت، وهذا مختص بالنساء، فلا يقال للرجل إذا زنى : بغى، والجمع: بغايا، فنهى الله عز وجل عنه وقال: {ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء } الإكراه هو الإجبار، أي لا تجبروهن على الزنs لأنه مما حرم الله ونهى عنه: {إنْ أردن تحصنا} أي : إذا أرادت إحداهن التحصن والعفة عنه، وهذا ليس فيه استثناء ولا قيد، وإنما خرج مخرج الغالب، وإلا فإنه لا يجوز دفعهن إلى الزنى بالأجرة ولو رضين بذلك، فليس معنى قوله تعالى: { إن أردن تحصنا} أنهن إذا لم يردن تحصنا يجوز هذا العمل، وهذا يسمى عند أهل الأصول وأهل اللغة : بالقيد الكاشف، يعني الذي يكشف المعنى ويوضحه.
وهذا له أمثال في القرآن كقول الله سبحانه وتعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير حق، يعني أنه لا يمكن أن يقتل النبي بحق، لكن لأنّ كل من قتل نبياً فقد قتله بغير حق، ذكّر السامع بذلك، فهذا مما يكشف المعنى، وكذا قول الله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } (المؤمنون : 117)، ومعلوم أن كل من يدعو ويعبد مع الله إلها آخر، فليس له برهان ولا دليل، لكن هذا من باب البيان أن من دعا مع الله عز وجل إلها آخر أنه دعاه بغير علم ولا برهان.
ولا شك أن المرأة إذا أرادت التحصن وأجبرها سيدها على البغاء، يكون الأمر أقبح مما لو كانت المرأة راضيةً به، لكن لو أنها رضيت فهو مما لا يجوز أيضا.
- وقوله تعالى: {لتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (النور : 33)، أي الدافع لكم على هذا العمل القبيح الرغبة في المال، والرغبة في الدنيا، وهكذا اليوم نجد أن هذه التجارة الخبيثة الخسيسة القبيحة رائجة، ويسمونها : تجارة الرقيق الأبيض؟! وهي المتاجرة بالنساء وأجسادهن وصورهن العارية؟ وهي تجارة رائجة في العالم للأسف الشديد؟؟! في الصحف والمجلات الساقطة، وفي الفضائيات الماجنة الخبيثة التي همّها وقصدها جذبُ أكبر عددٍ من المشاهدين، والاستفادة من أموال الاتصالات والرسائل النصية منهم ؟! وغير ذلك مما يجنونه من المال السحت، والكسب الحرام عن هذا الطريق الخبيث القبيح، وكل ذلك من أجل المال والدنيا الفانية، ويغرون الناس بارتكاب الفاحشة والخيانة، والعلاقات الآثمة، ويقولون بعد ذلك : العالم المتحضر ؟؟! وهو في الحقيقة واقع فيما هو أقبح وأوسع مما كان عليه أهل الجاهلية السابقون من الإثم والفساد ؟! فتجارة الرقيق اليوم أخبث مما كان عليه الناس في الجاهلية وأوسع انتشارا.
- وقوله: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي : لو أكرهت المرأة على ذلك فلا إثم عليها، والإكراه يكون بالضرب الشديد، أو يكون بالأذى الشديد الذي لا تطيقه المرأة، أو التهديد بالقتل ونحوه، فلو أكرهت على هذا الطريق بذلك، فهي معذورة عند الله، وهذا جار على قاعدة المكره والمجبر فإنه لا إثم عليه كما هو معلوم.
وقيل: المعنى : من فعل ذلك منكم وأكرههن على الزنى، فليتب إلى الله تعالى، وليقلع عما صدر منه مما يغضب الله.
وإن فعلته وهي مختارة، ثم تابت وندمت وعملت صالحاً، تاب الله سبحانه وتعالى عليها.
- وقوله سبحانه: {فتياتكم} الفتيات هنا هن: الإماء، تسمى الأَمة المملوكة: فتاة، ويسمى العبد: فتى، وهذا من أسماء العبيد والإماء.
والله تعالى أعلم.
لاتوجد تعليقات