شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (41) الإجماع وعمل أهل المدينة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب السادس عشر:
16- باب ما ذكر النبيُّ [ وحضّ على اتفاق أهل العلم، وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي [ والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي [ والمنبر والقبر.
الحديث الأول:
7322 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله السلمي: أن أعرابيا بايع رسول الله [ على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول الله [ فقال: يا رسول الله، أقلني بيعتي، فأبى رسول الله [، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله [: «إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها وينصع طيبها « (طرفه في: 1883).
الشرح:
الباب السادس عشر: باب ما ذكر النبي [ وحض على اتفاق أهل العلم، وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي [ والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي [ والمنبر والقبر.
فهذا الباب ذكر فيه البخاري رحمه الله ثلاثة وعشرين حديثا، فيها حث النبي [ وتحريضه على الاتفاق قدر المستطاع، والبعد عن الاختلاف والتنازع، وذكر حجية ما اجتمع عليه أهل الحرمين مكة والمدينة النبوية؛ لما كان فيهما من توافر أصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار.
وأما الإجماع فهو كما ذكر أهل العلم: اتفاق مجتهدي العصر من أمة محمد [ على أمر من الأمور الدينية.
وكان الإمام مالك رحمه الله يرى أن عمل أهل المدينة حجة على غيرهم وأنه إجماع، وعلل ذلك بأن المدينة النبوية هي مأوى النبي [، ودار إقامته، وهي محل إقامة أصحابه رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار من بعده؛ فعملهم حجة على غيرهم، بل عملهم حجة على فهم النصوص والعمل بها أو عدم العمل، هكذا رأى الإمام مالك؛ ولهذا لم يأخذ الإمام مالك رحمه الله بحديث: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» وهو متفق عليه؛ لأن أهل المدينة لم يكونوا يعملون به، والصحيح: أن عمل أهل المدينة لا شك في قوته وحجيته، لكن لا يمكن أن يقدم عملهم على النصوص الشرعية الواضحة الصريحة، بل النص الشرعي يقدم على قول كل أحد، وعمل كل أحد، كائنا من كان.
ثم إن أصحاب النبي [ خرج كثير منهم بعد وفاة النبي [ من المدينة إلى الفتوحات والبلدان المختلفة، واستقروا في البلاد المفتوحة، معلمين للخلق الدين والسنن، سنن نبينا [، فكانوا نعم القادة ونعم السادة المعلمون، المفقهون، المفهمون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله [.
إذًا إجماع أهل المدينة حجة ما لم يخالف النص، ولا شك في أفضلية المدينة وأفضلية أهل المدينة، لكن الفاضل من الصحابة وغيرهم قد يخطئ كما هو معلوم، بل قد يخطىء الفاضل ويصيب المفضول.
وهناك أيضا من ذهب إلى حجية عمل أهل الكوفة؛ بحجة أن أهل الكوفة كان عامة علمائهم من أصحاب رسول الله [؛ لأنها من البلدان التي كثر فيها نزول الصحابة بعد فتحها في عهد عمر رضي الله عنه، أو تخطيطها في زمن عمر رضي الله عنه.
ونقول نحن: إن أفضلية المكان وأفضلية أهله، وكذا أفضلية الزمان، لا يدلان على إصابة الحق دائما، بل الحجة تدور مع النص حيث دار، وكما قيل: اعرف الحق تعرف أهله.
ويمكن أن يقال: إن الإمام مالك بن أنس رحمه الله بنى ذلك على ندرة مخالفة أهل المدينة للنصوص الشرعية، وهذا صحيح، لكن ليس دائما.
وعلى كل حال فإن عمل أهل المدينة حجة ما لم يخالف نصا من كتاب الله، أو سنة رسوله [.
ثم ذكر البخاري رحمه الله في أول ما ذكر من الأحاديث: حديث جابر بن عبدالله السلمي، يرويه عن إسماعيل وهو بن أبي أويس، قال: حدثني مالك، وهو الإمام المشهور مالك بن أنس إمام دار الهجرة، عن محمد بن المنكدر المدني، ثقة فاضل وهو من المكثرين في الرواية عن جابر.
عن جابر رضي الله عنه: «أن أعرابيا بايع النبي [ على الإسلام؛ فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة « يعني: أصابته وعكة ومرض، وهذا مما يصيب من سكن المدينة أولا، كما جاء في حديث ابن عمر مرفوعا: «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد، إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» رواه مسلم (2/1004). واللأواء: حمى المدينة.
فجاء الأعرابي إلى رسول الله [ فقال: «يا رسول الله أقلني بيعتي» يعني: ردّ علي بيعتي لأني أريد أن أخرج من المدينة، فهو هاجر إلى المدينة، وبايع رسول الله على الهجرة، ثم إنه أراد ترك الهجرة والرجوع إلى البادية، فأبى رسول الله [ أن يرد عليه هجرته؛ لأنه لا يرد من بايعه، ولا يقيل من بايع على الهجرة أبدا.
قوله: «ثم جاءه مرة أخرى، وقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه الثالثة فأبى [، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله [: «إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع طيبها».
هذا الحديث استدل به البخاري على تفضيل المدينة النبوية على غيرها من المدن، بما خصها الله تعالى به من سكنى رسول الله وأصحابه الكرام، وبما أنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، والمقصود به خبث الناس أو الخبيث من الناس، فالمدينة تنفي الخبيث من الناس كما ينفي الكير خبث الحديد، والكير هو منفاخ الحداد الذي ينفخ به في النار حتى ينصهر الحديد، فكما أن الكير ينفي خبث الحديد إذا صهر، فكذلك المدينة تنفي الخبيث من الخلق والناس، وهذا كما قلنا يدل على فضل المدينة وسكناها.
وليس هذا الوصف المذكور عاما لها في جميع الأزمنة، بل هو خاص بزمن الرسول [؛ لأنه لم يكن أحد يخرج منها رغبة عن الإقامة فيها، إلا من لا خير فيه، فلا يخرج أحد من المدينة التي يقيم فيها رسول الله [، رسول رب العالمين، معلما، مفقها، تاليا للقرآن، محدثا عن الله، ذاكرا للواجبات، مبينا للمحرمات، لا أحد يخرج من هذا المكان وهذه البلدة، إلا من لا خير فيه من الخلق.
أما بعد وفاته [، وبعد اكتمال الدين والشريعة، وتمام القرآن والسنة النبوية، فقد خرج جماعة كثيرة من خيار الصحابة رضوان الله عليهم، وسكنوا خارج المدينة حتى ماتوا في تلك البلاد المفتوحة كما قلنا، وهم كثر، ومن أشهرهم: ابن مسعود، وأبوموسى الأشعري، وعلي، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، فقد سكنوا الكوفة، بل إن عليا ] وهو رابع الخلفاء الراشدين جعل الكوفة مقرا لخلافته، أي: نقل مقر الخلافة من المدينة إلى الكوفة، وكذلك سكن أبو ذر خارج المدينة، وعمار، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وغيرهم كثير سكنوا الشام، ومنهم من سكن المدائن بفارس، ومنهم من سكن مصر، وهكذا، وكما قلنا مقصدهم في ذلك مقصد عظيم وشريف، وهو إمارة البلدان وقيادتها وتعليم أهلها القرآن والسنن النبوية، وبيان ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه من الدين.
فهذا كله يدل على أن قوله [: «إنما المدينة كالكير تنفي خبثها» أنه خاص بزمنه [؛ حيث كانت الآيات القرآنية تنزل، والأحاديث تتلى، ولوجوب نصرته [ بالهجرة إليه والجهاد.
ومما يدل على ذلك أيضا: ما يقع في زمن الدجال عندما يحاصر المدينة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج على أثرها منها كل منافق ومنافقة.
فهذا الحديث: يدل أنه قد يسكن المدينة منافقون ومنافقات؛ لأنه إذا حاصر الدجال أهل المدينة رجفت المدينة فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا وخرج منها، فهذا يوم الخلاص الذي تتخلص فيه المدينة النبوية من المنافقين والمنافقات، والفاجرين والفاجرات الذين يستعلنون بنفاقهم، أو أنهم يخفونه حسب قوتهم، وترى أحيانا بعض ما لا يرضيك منهم في مكة أو المدينة من الساكنين فيها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر الحرمين منهم.
لاتوجد تعليقات