شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (46)-الإجماع وعمل أهل المدينة (6)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الحديث الثالث عشر:
قال البخاري رحمه الله:
7334 - حدثنا ابن أبي مريم: حدثنا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل: «أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة». (طرفه في: 496).
الشرح:
الحديث الثالث عشر رواه البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه ابن أبي مريم وهو سعيد بن الحكم بن محمد الجمحي، أبو محمد المصري، ثقة ثبت فقيه. عن أبي غسان وهو محمد بن مطرف الليثي المدني، ثقة. عن أبي حازم، وهو سلمة بن دينار الأعرج المدني القاضي، ثقة عابد.
قال: عن سهل وهو ابن سعد الساعدي الخزرجي رضي الله عنه الصحابي المشهور، له ولأبيه صحبة.
قوله: «أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة، وبين المنبر ممر الشاة. يعني بقوله: مما يلي القبلة: أي من جهة القبلة، وبين المنبر ممر الشاة. ففي هذا الحديث بيان القدر الذي كان بين جدار المسجد وبين المنبر، فإن سأل سائل: ما القدر بين جدار المسجد الذي هو من جهة القبلة وبين المنبر؟ فالجواب: أن بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر من المسافة، قدر ما تمر فيه الشاة.
وورد في سنته [: أنه كان يجعل هذا القدر بينه وبين السترة التي يستتر بها في صلاته، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام يصلي، اتخذ سترة تستره عن المارين قدر ذلك، وهذا العمل من السنن التي هجرها كثير من المسلمين والمسلمات اليوم بجهلهم بالسنة، فتجد أحدهم يصلي في وسط المسجد أو في وسط البيت، والناس يمرون بين يديه، والمرأة تصلي وسط الدار، والصبيان يمرون بين يديها، وهذا خلاف السنة! النبي [ يقول: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، ولا يدعن أحدا يمر بين يديه، فإن جاء أحدٌ يمر فليقاتله فإنما هو شيطان». رواه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان. وقوله: قليقاتله: يعني: ليدفعه وليمنعه من المرور.
وقال [ في حديث آخر: «لا تصل إلا إلى سترة» بل كان النبي [ في مكة يتخذ السترة، كما جاء في الحديث أنه [ صلى إلى جدار الكعبة.
والحكمة - كما قال بعض أهل العلم - في اتخاذ السترة، أن الإنسان إذا كان يخاطب عظيما أو ملكا، فإنه يكره كراهية عظيمة أن يقف أحد بينه وبينه، أو أن يمر بينه وبينه؛ لأنه يقطع مناجاته، ويقطع كلامه، وربما يقطع حديثه وخلوته، وكذلك العبد إذا قام يصلي فهو يناجي ربه فيكره أن يمر أحد بين يديه.
نعم ورد في السنة: أن مرور المرأة البالغة بين المصلي – رجلا كان أو امرأة - وبين موضع سجوده يقطع الصلاة، بخلاف مرور الرجل أو الطفل أو الطفلة فإنهم لا يقطعون الصلاة إذا مروا بين يدي الرجل أو المرأة.
وإذا قال القائل: لماذا يتخذ الإنسان سترة في موضع لا أحد فيه؟ أو إذا قال قائل: أنا أصلي في غرفة لا يمر فيها أحد بين يدي، فهل يشرع لي استخدام السترة؟ نقول: نعم؛ لأن الرسول [ يقول: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، لا يقطع الشيطان عليه صلاته» فأخبر أن هناك عدوا آخر يخطر بين الإنسان وبين صلاته - يعني يمر بينه وبين صلاته – ألا وهو الشيطان.
فهذا الحديث فيه تنبيه إلى ما كان عليه الأمر في العهد النبوي من اتخاذ السترة، وتنبيه إلى أن منبر رسول الله [ لم يكن كبيرا، بحيث إنه يقطع الصف الأول، كما ترى ذلك في بعض المساجد القديمة، أن المنبر يتخذ من الخشب ويكون حجمه ضخما بحيث إنه يكاد يقطع الصف الأول والثاني.
الحديث الرابع عشر:
قال البخاري رحمه الله:
7335 – حدثنا عمر بن علي: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي: حدثنا مالك، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله [: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي». (طرفه في: 1196).
الشرح:
الحديث الرابع عشر حديث أبي هريرة يرويه البخاري عن شيخه عمر بن علي وهو ابن عطاء المقدمي الواسطي، ثقة وكان يدلس. عن عبدالرحمن بن مهدي، وهو العنبري مولاهم، ثقة ثبت حافظ، من أمراء الحديث النبوي المشهورين بالرواية والعلم، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه بالحديث. وعبدالرحمن بن مهدي هو الذي أشار على الإمام الشافعي -رحمه الله- بأن يضع له كتابا موجزا في القواعد الفقهية والأصول الفقهية، التي يجب على طالب العلم معرفتها، فكتب له الإمام الشافعي رحمه الله كتاب: (الرسالة) الذي لم تر الدنيا قبله مثله، وكان هذا الكتاب ربما اللبنة الأولى في علم أصول الفقه، ومن بعده أصل عليه العلماء والفقهاء الأصول الفقهية، أو علم ما يسمى بأصول الفقه، وفائدته عظيمة لطالب العلم؛ حيث إنه يعلم الإنسان طريقة الوصول إلى الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة، وقد استهان بعض طلبة العلم في زماننا بهذا العلم، ولم يولوه العناية المطلوبة؛ فحصل منهم الزلل والخطأ في استنباط الأحكام الشرعية.
قال: عن الإمام مالك، قال: عن خبيب بن عبدالرحمن، وهو ابن خبيب الأنصاري أبو الحارث المدني، تابعي ثقة. عن حفص ابن عاصم، وهو ابن عمر ابن الخطاب، تابعي ثقة. قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي».
قوله: «ما بين بيتي ومنبري»، وجاء عند ابن عساكر: «ما بين قبري ومنبري»! ولكنها لفظة لا تصح! إذ كيف يقول النبي [: ما بين قبري، وهو لا يزال حيا؟!
وورد عند الطبراني: «ما بين بيت عائشة ومنبري، روضة من رياض الجنة». وهذا كأن بعض المحدثين روى هذه اللفظة بالمعنى، أو أن المقصود: ما بين بيتي - الذي هو بيت عائشة الذي أنا فيه الآن – وبين منبري روضة من رياض الجنة.
ثم اختلف العلماء، ما معنى قول النبي [: «روضة من رياض الجنة»؟
فقال طائفة من أهل العلم: المقصود بذلك ما كان يعقده عليه الصلاة والسلام من حلق للذكر والعلم والتعليم، روضة من رياض الجنة، كما قال [ في الحديث الحسن: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: يارسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر». رواه أحمد والترمذي، وفيه ضعف.
فشبه حلق العلم ببساتين الأشجار والأزهار ذات المياه والنضارة.
فكان مسجد النبي [ آنذاك عامرا بحلق الذكر والعلم، والفتيا، وتلاوة ما أنزل الله سبحانه في كتابه من الآيات والفرائض والأحكام، وكذا الصلوات والطاعات، ويكفي الجالس في تلك المجالس المباركة العظيمة التي لم تر الدنيا قبلها مثلها، ولا بعدها مثلها، يكفي الجالس في تلك المجالس بركة الجلوس مع سيد الخلق [، وشفيع الناس يوم القيامة، وخير من وطئت قدماه الثرى [، والاستفادة من علمه الزاخر، والفوز ببركة صحبته [؛ فإن منزلة الصحبة لا تدانيها منزلة في الدنيا بعد النبيين والمرسلين.
وقيل: إن الحديث يعني: إن هذا الموضع الذي ذكره رسول الله [ وهو: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» أن هذا الموضع بعينه: ما بين بيت رسول الله [ الذي مات فيه وهو بيت عائشة، وبين منبره، أنه بعينه سينتقل إلى الدار الآخرة، فيكون روضة من رياض الجنة.
وقيل: هو كروضة من رياض الجنة في تنزل الرحمات للموجود بها.
وقوله: «ومنبري على حوضي» وهذا على ظاهره، أن منبره [، الذي كان يقوم عليه فيخطب الجمع والأعياد وغيرها في بعض الأوقات، أن هذا المنبر سينصب له [ على حوضه في الدار الآخرة، وهذا من الأخبار الغيبية التي أخبر بها النبي [، ففيه شرف هذه البقعة من المدينة النبوية الشريفة والتي هي من الخصائص التي لا توجد في مكان آخر.
لاتوجد تعليقات