شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (48)-الإجماع وعمل أهل المدينة (8)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
(من السنن النبوية في التطهر - الحلف)
قال البخاري رحمه الله :
7339 – حدثنا محمد بن بشار: حدثنا عبد الأعلى: حدثنا هشام بن حسان: أن هشام ابن عروة حدثه: عن أبيه: {أن عائشة قالت: كان يوضع لي ولرسول الله [ هذا المركن، فنشرع فيه جميعا} (طرفه في: 25)
الشرح:
الحديث الثامن عشر حديث عائشة الذي يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه محمد بن بشار وهو العبدي أبو بكر، وهو الحافظ المشهور ولقبه بندار، قال: حدثنا عبد الأعلى وهو ابن عبد الأعلى السامي البصري، ثقة. قال: حدثنا هشام بن حسان، وهو القردوسي البصري، ثقة من أثبت في ابن سيرين. أن هشام بن عروة حدثه عن أبيه عروة بن الزبير، عن خالته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: كان يدفع لي الرسول [ هذا المركن فنشرع فيه جميعا. المركن: هو إناء من أدم أي: جلد، شبيه الحوض الصغير من النحاس.
قوله: «فنشرع فيه جميعا» أي: نتناول من الماء الذي فيه بأيدينا بغير إناء، أي: أنها رضي الله عنها كانت تغتسل مع النبي [ من إناء واحد، والشروع أصله الورود على الماء للشرب، ثم استعمل في كل حالة يتناول فيها الماء.
وهذا الحديث فيه شيء من سنن النبي [ في الطهارة وغيرها، أولها: بيان مقدار ما يكفي الزوج وزوجته من الماء إذا اغتسلا، فإنه[ كان لا يسرف في وضوئه ولا في غسله من الجنابة، فقد روت عنه عائشة رضي الله عنها: أنه كان [ يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد . متفق عليه.
والمد هو: ملء كفي الرجل المعتدل الخلقة، والصاع أربعة أمداد، فكان [ يغتسل بهذا المقدار من الماء، وهو قليل بالنسبة لما تعود عليه كثير من الناس اليوم ، من الإسراف في استعمال الماء عند الوضوء والغسل، بفتح الماء عن آخره وصبه شديدا، فيهدر المياه ويخالف السنة النبوية الشريفة.
وقد صح في الحديث: أن النبي [ مرّ على سعد رضي الله عنه وهو يتوضأ، فقال: يا سعد! ما هذا السرف في الوضوء؟! فقال: وفي الوضوء سرف يا رسول الله؟! قال: «نعم، ولو كنت على نهر جار». رواه أحمد وغيره.
يعني: أنه لا يشرع للإنسان أن يتوضأ بماء كثير، ولو كان على نهر جار.
وأيضا: روى عبدالله بن المغفل رضي الله عنه - كما في سن أبي داوود - عن النبي [ أنه قال: «سيكون أقوام يعتدون في الطهور والدعاء». والاعتداء: معناه مجاوزة الحدّ والإسراف، فمن الاعتداء مثلا: أن يتوضأ المسلم أربعا أربعا، لأن السنة وردت بثلاث غَسَلات فقط، فمن زاد عليها فقد تعدى الحد الشرعي. وثبت أيضا في السنن: أنه [ توضأ ثلاثا ثم قال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم».
وورد في الحديث أيضا: «من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما قدم من عمل» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان.
فقوله: «من توضأ كما أمر» تنبيه على المتابعة.
وقال: «من توضأ مثل وضوئي هذا». فلا بد من متابعة الرسول [ في العبادات وكيفياتها وأعدادها وأوقاتها وأماكنها.
وإذا قال بعضهم: إني بحاجة إلى التنظيف، وغسل الرأس بالصابون، والبدن مع غسل الجنابة أو مع غسل الحيض، فنقول: اجعل غسل الجنابة آخرا بعد أن تنظف وتغسل رأسك بالصابون، فعند ذلك إذا أردت الخروج فاغتسل الغسل الشرعي، وخفف فيه من استعمال الماء، وعلى كل حال فالإسراف مذموم، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } (الإسراء: 26- 27).
ففي هذا الحديث بيان ما يجب أن يتبع من سنة النبي [ في مقدار ما يكفي من الغسل.
وفيه أيضا: أن النبي [ كان يلاطف أهله أحيانا ويؤانسهم فيغتسلا جميعا. وفيه أيضا: دليل لمن أباح نظر كل من الزوجين لعورة صاحبه، وغير ذلك من الفوائد المذكورة في مظانها.
والله تعالى أعلم .
الحديث التاسع عشر:
قال البخاري رحمه الله:
734 – حدثنا مسدد: حدثنا عباد بن عباد: حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال: «حالف النبي [ بين الأنصار، وقريش في داري التي بالمدينة» (طرفه في: 2294).
{وقنت شهرا يدعو على أحياء من بني سليم} (طرفه في : 1..1)
الشرح:
الحديث التاسع عشر في الباب: حديث أنس ]، يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه مسدد، وقد مضى. قال: حدثنا عباد بن عباد، وهو ابن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، ثقة. قال حدثنا عاصم الأحول، هو ابن سليمان أبو عبدالرحمن البصري، ثقة قال عن أنس رضي الله عنه: «حالف النبي [ بين الأنصار، وقريش في داري التي بالمدينة».
الحلف هو: المعاهدة، ومحالفة النبي [ بين الأنصار وقريش أي المهاجرين، لأنهم جاؤوا من مكة وغالب أهلها من قريش، هذا الحلف محمول على المؤاخاة التي حصلت بالمدينة بين المهاجرين والأنصار، فالرسول [ عندما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى كما جاء في صحيح البخاري بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكان هذا الحلف أو هذه المؤاخاة عظيمة متينة إلى درجة أن سعد بن الربيع كان له زوجتان فقال لعبد الرحمن بن عوف: إني ذو مال كثير فخذ شطر مالي، ولي زوجتان، فانظر إلى أجملهما لك حتى أطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها، فقال له عبد الرحمن، وما أعجب ما قال! قال له: بارك الله لك في مالك وأهلك وأبى أن يأخذ منه شيئا، ثم قال: دلوني على السوق، فباع واشترى رضي الله عنه حتى تزوج بعد ذلك وكثر ماله، فكان من أثرياء الصحابة ] .
وقال بعض أهل العلم :إن الرسول [ آخى بين أصحابه مرتين: مرة بمكة آخى بين أهل مكة، من أسلم من أصحابه من أهل مكة آخى بينهم، أي: جعل الرابطة بينهم هي رابطة الإيمان والإسلام دون رابطة القبيلة والنسب، من أجل أن يصيروا قلبا واحدا، وبدنا واحدا.
وهكذا كان أصحاب رسول الله [.
والمؤاخاة الثانية الثابتة: حصلت لما هاجر النبي [ إلى المدينة، فآخى بين المهاجرين والأنصار، جعلهم إخوة في الإسلام دون إخوة النسب، وكان أول الأمر إذا مات الأنصاري، ورثه أخوه المهاجري إلى أن نزل قوله سبحانه وتعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه} (الأنفال: 75)، أي: أرجع الله الأمر إلى سابقه ، وهو: أنه إذا مات الميت، ورثه قرابته من أهله وعصبته.
وإذا قال قائل : كيف نجمع بين هذا الحديث، وهو: «أنه [ حالف بين المهاجرين والأنصار بالمدينة»، وبين قوله [: «لا حلف في الإسلام» رواه مسلم. وهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره؟!
والجواب: أن الحلف المنهي عنه في قوله [: «لاحلف في الإسلام» هو الحلف الذي يخالف الشرع، فقد كان العرب يتحالفون في الجاهلية على النصرة والإغاثة، ولو كان أحدهم ظالما، فينصر بعضهم بعضا، ولو كانوا ظالمين معتدين، فنهى النبي [ عن ذلك وقال: «لا حلف في الإسلام» يعني: لا حلف يبيح لك تعدي حرمات الله، والوقوع فيما حرم الله، وأما التحالف على الحق، ونصرة الحق وأهله، التحالف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتآخي والتعاهد والتواصي بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وحفظ القرآن، وقيام الليل، وصيام التطوع .. إلخ، التواصي بذلك والتآخي عليه، فهذا لا بأس به في الإسلام، بل هو مما يحبه الله تبارك وتعالى، ويحبه رسوله [.
وقوله: في «داري التي بالمدينة» فيها فضل المدينة النبوية، وفضل الدار التي حصلت فيها المؤاخاة، وأنس ] من صغار الصحابة، لكن كانت أمه، وهي أم سليم من الصحابيات اللاتي كان لهن مكانة في المدينة، وذكرت في غير ما حديث.
لاتوجد تعليقات