شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (49) الإجماع وعمل أهل المدينة (9)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
- حديث: «وقنت شهرا على أحياء من بني سليم».
هذا الحديث رواه البخاري بسنده السابق عن أنس قال: «وقنت شهرا على أحياء من بني سليم», وهي القصة المعروفة ببئر معونة؛ وذلك أن أحياء من الأعراب جاءوا إلى النبي [ وطلبوا منه أن يرسل معهم من يعلمهم القرآن والإسلام, فأرسل النبي [ معهم سبعين رجلا كان يقال لهم القراء, يعني ممن حفظوا كتاب الله أو حفظوا جملة من كتاب الله تعالى, وأحكام الدين والشرع, أرسلهم معهم يعلمونهم القرآن والإسلام، فلما كانوا ببعض الطريق غدروا بهم فقتلوهم أجمعين, فقنت النبي [ عليهم في الصلوات الخمس يدعوا عليهم ويلعنهم, حتى نهي عن ذلك [ بقول الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128).
والقنوت له معان كثيرة تصل إلى عشرة, فمن معاني القنوت: الطاعة والعبادة والدعاء والخشوع والقيام والقراءة وطول القيام, كل هذه من معاني القنوت, لكن المراد بالقنوت هنا: هو الدعاء في الصلوات الخمس والذي يعرف بقنوت النوازل, إذا حصلت بالمسلمين نازلة من حرب أو عدو أو سيل أو قحط شديد أو ما أشبه ذلك, فللإمام أن يقنت في صلاته يدعو للمسلمين, وذكر علماؤنا أنه ينبغي أن يكون ذلك بإذن ولي الأمر؛ لئلا تحدث في المسلمين فوضى وتشويش على المصلين, فإنه إذا صار هذا المسجد يقنت, وذلك المسجد لا يقنت, ويختلفان, فإن هذا يؤدي إلى الاضطراب والاختلاف؛ ولذا فيربط بوزارات الشؤون الإسلامية التي هي الجهة المسؤولة عن تدبير وتصريف أمور المساجد والأئمة والمؤذنين.
ولو قال قائل: هل تحجرون الدعاء للمسلمين وتربطونه بإذن أحد من الناس؟
نقول: أبدا لا نمنع الدعاء, بل الدعاء متاح ومفسوح في الوقت كله, فلك أن تدعو في صلاتك, في سجودك بما تشاء, وقبل السلام بما تشاء, ولك أن تصلي في بيتك وتدعو بما تشاء, فالدعاء ليس محصورا في قنوت النوازل بل هو أمر واسع, والحمد لله رب العالمين.
الحديث الواحد والعشرون:
رواه البخاري رحمه الله:
7341 - 7342 - حدثني أبو كريب: حدثنا أبو أسامة: حدثنا بريد: عن أبي بردة قال: قدمت المدينة, فلقيني عبدالله بن سلام, فقال لي: انطلق إلى المنزل, فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله [, وتصلي في مسجد صلى فيه رسول الله [, فانطلقت معه, فسقاني سويقا, وأطعمني تمرا, وصليت في مسجده. (طرفه في: 3814).
الشرح:
حديث أبي بردة, وهو ابن أبي موسى الأشعري ], يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه أبي كريب, وهو محمد بن العلاء الهمداني الحافظ, قال: حدثنا أبو أسامة, وهو حماد بن أسامة القرشي الكوفي, مشهور بكنيته, ثقة ثبت ربما دلس. قال: حدثنا بريد وهو ابن عبدالله بن أبي بردة, تابعي ثقة.
قال: عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت المدينة فلقيني عبدالله بن سلام, وجاء من طريق آخر عند البخاري قال: أرسلني أبي إلى عبدالله بن سلام لأتعلم منه, فسألني من أنت؟ فأخبرته فرحب بي, وهذا من الرحلة في طلب الحديث, وهو أمر مشهور عند السلف رحمهم الله تعالى من أجل الاستزادة في العلم والفقه والقرآن, كانوا يسافرون ويرحلون.
وعبدالله بن سلام حبر من أحبار اليهود, أي: عالم من علمائهم, وفقه الله سبحانه وتعالى للإسلام, وحبب إليه الإيمان, فآمن بمحمد [ وحسن إسلامه, وقد كان معظما عند يهود المدينة, فنبذوه بعد إسلامه وتبرؤوا منه, ولو آمن معه تسعة لآمنت يهود بأسرها, كما قال عليه الصلاة والسلام: « لو آمن بي عشرة من اليهود, لآمن بي اليهود « رواه البخاري.
والمقصود بالعشرة كما قال أهل العلم: عشرة من العلماء والكبار منهم, لكن الذين آمنوا بالرسول [ من الأحبار - أي العلماء – في عهده كانوا قلة, مع أنه كان يجب عليهم المبادرة إلى الإيمان بالرسول [, لأنهم كانوا يعلمون أنه رسول الله [؛ يقينا, بصفاته المذكورة في التوراة والإنجيل, بلا شك ولا ارتياب, لكن كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 43 - 44).
بل كان علماؤهم ممن يصدون عن الإيمان بالرسول [! ويكابرون ويقولون: ليس هو النبي الذي بشرنا به في التوراة!! مع أنهم كانوا يعلمون يقينا أنه هو عليه الصلاة والسلام, ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم, كما أخبرنا القرآن بذلك.
قوله: «فلما جاء أبو بردة إلى عبدالله بن سلام قال له: انطلق معي إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله [«.
والقدح بالفتح هو الذي يُشرب ويؤكل فيه.
وهذا الحديث: فيه فضل الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ كان عندهم من آثار النبي [ وأوانيه ما ليس عند غيرهم, وهذا مقصود هذا الباب, وهو فضل أهل المدينة, وما كان عند أهل المدينة من العلم بالشرع وأحواله ما ليس عند غيرهم, فكان عبد الله بن سلام يحتفظ بهذا القدح الذي شرب فيه الرسول [.
وفيه: مشروعية التبرك بآثار النبي [.
وأما التبرك بغيره فلا يشرع على الصحيح؛ لأنه لم يرد عن الصحابة أنهم تبركوا بأبي بكر الصديق أو عمر الفاروق أو غيرهما من الخلفاء الراشدين, أو بأحد العشرة المبشرين, أو بأهل بدر أو غيرهم.
قوله: «وتصلي في مسجد صلى فيه النبي [« والمراد بالمسجد هاهنا مكان السجود, أي: المكان الذي سجد فيه النبي [ ووضع جبهته عليه.
قوله: «فانطلقت معه فسقاني سويقا» والسويق: هو الدقيق الذي يطرى بشيء من الماء. قال: وأطعمني تمرا, وصليت في مسجده.
لاتوجد تعليقات