شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (50)الإجماع وعمل أهل المدينة (10)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
قال البخاري رحمه الله :
الحديث الثاني والعشرون :
7343 – حدثنا سعيد بن الربيع: حدثنا علي بن المبارك، عن يحي بن أبي كثير: حدثني عكرمة، عن ابن عباس : أن عمر رضي الله عنه حدثه قال: حدثني النبي[ قال: «أتاني الليلة آت من ربي، وهو بالعقيق، أن صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة وحجة». وقال هارون بن إسماعيل: حدثنا علي: «عمرة في حجة» (طرفه في: 1534).
الشرح :
حديث ابن عباس يرويه البخاري عن سعيد بن الربيع وهو العامري الحرشي، ثقة وهو من أقدم شيوخ البخاري وفاة. قال حدثنا علي بن المبارك، وهو الهنائي بضم الهاء ثقة، قال عن يحي بن أبي كثير وهو الطائي مولاهم، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل، قال حدثني عكرمة، وهو أبو عبدالله البربري، تابعي ثقة مشهور.
قال إن عمر رضي الله عنه حدثه عن النبي [، أنه قال: «أتاني الليلة آت من ربي» أي: بالمنام أتاه آت في المنام ، وهو بالعقيق، ورؤيا الأنبياء حق كما هو معلوم ووحي كما قال الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (الصافات: 1-2) ، فجعل ما يراه في المنام أمرا من عند الله تبارك وتعالى، وذلك أن الأنبياء - كما قال عليه الصلاة والسلام-: «وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم» رواه البخاري . فقلوبهم محل الوحي ، وتنزل كلام الله تبارك وتعالى عليها ، ومخاطبة الله تعالى لهم بواسطة الملك .
قوله: «وهو بالعقيق»، والعقيق: واد قريب من المدينة، ووصف بأنه مبارك, فالله تبارك وتعالى أمره أن يقول فيه: «عمرة وحجة» أي: يقرن بين العمرة والحج، فكان [ في حجته التي لم يحج غيرها قارنا ، وفي رواية: «قل عمرة في حجة» يعني: عمرة قد دخلت فيها حجة.
ففي هذا الحديث: وصف النبي [ الوادي المذكور، بأنه مبارك، وأنه يستحب لمن أحرم بالمدينة أن يصلي فيه ركعتين، لأنه أمر فيه [ أن يصلي فيه ركعتين.
وفيه: فضل الإحرام من المدينة، لأن المواقيت الأخرى لا يوجد فيها مثل هذا الفضل، فلم توصف بما ذكر [ من وجود بقعة مباركة أمر فيها النبي [ أن يصلي فيها ركعتين، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إنه ليس للإحرام صلاة خاصة، لأنه [ إنما صلى في هذا الوادي بأمر الله تبارك وتعالى لا للإحرام، وهذا القول هو الصحيح، ونصره غير واحد من أهل العلم المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، لكن إذا احرم المسلم وكانت هناك صلاة حاضرة، فإنه يستحب له أن يحرم عقبها، يعني إذا حضرت صلاة الظهر والإنسان بالميقات، استحب له أن يحرم عقب الصلاة، أو أنه يتوضأ وينوي بصلاته ركعتي الوضوء ثم يحرم عقب الصلاة، وأما مجرد الإحرام فليس له صلاة تخصه، ولهذا فمن أحرم بالطائرة فإنه لا يلزمه أن يصلي ركعتين قبل الإحرام.
الحديث الثالث والعشرون:
قال البخاري رحمه الله:
7344 – حدثنا محمد بن يوسف: حدثنا سفيان، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: وقت النبي[ قرنا لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، وذا الحليفة لأهل المدينة، قال: سمعت هذا من النبي[، وبلغني أن النبي[ قال: «ولأهل اليمن يلملم». وذكر العراق، فقال: لم يكن عراق يومئذ .
الشرح :
الحديث الثالث والعشرون: حديث ابن عمر يرويه البخاري من طريق شيخه محمد بن يوسف وهو الفريابي، عن شيخه سفيان، وهو الثوري مر معنا، وهو الإمام المشهور بالسنة، عن عبدالله بن دينار، وهو العدوي مولاهم، مولى ابن عمر ، ثقة من أفاضل التابعين.
قوله : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وقت النبي [ قرنا لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، وذا الحليفة لأهل المدينة، قال: سمعت هذا من النبي [ «في ذكر المواقيت التي هي للحاج والمعتمر.
والمواقيت كما هو معلوم مواقيت مكانية، ومواقيت زمنية، والمذكور في هذا الحديث هي المواقيت المكانية التي يحرم منها الحاج والمعتمر، فالسنة أن يحرم الإنسان منها بحسب بلده ومكانه الذي هو فيه، فإن كان من أهل نجد وما قبلها، وما كان من ناحيتها، فإنه يحرم من قرن، أو قرن المنازل، وهو المعروف اليوم: بالسيل الكبير.
وما كان من أهل الشام فإنه يحرم من الجحفة، والجحفة اليوم قرية خربة، فيحرم من رابغ، وهي قبلها بيسير.
وما كان من أهل المدينة فإنه يحرم من ذي الحليفة، والتي سبق ذكرها في الحديث الماضي.
وهذه المواقيت هي مواقيت مكانية محددة شرعا، لا يشرع للإنسان أن يحرم قبلها بغير ضرورة.
يعني لو قال الإنسان: أنا أريد أن أطول زمن الإحرام، فأحرم من بيتي هنا في الكويت مثلا، حتى أصل للبيت!
يقول: لأجل أن أطول زمن التلبية!
نقول: إن هذا خلاف هدي النبي [، وخلاف الإعتصام بسنته المباركة!
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله بنحو هذا: جاء إليه رجل فقال له: من أين أحرم ؟ قال: من حيث أحرم رسول الله [ يعني من ذي الحليفة - فقال له: أني أريد أن أحرم من بيتي! يعني من بيته بالمدينة، فقال له مالك: لا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة! فقال: وأي فتنة، وإنما هي أميال أزيدها! فقال له الإمام مالك رحمه الله: وأي فتنة أعظم، من إنك ترى أنك خصصت بفضل، لم يخص به رسول الله [!
وهذا من الفقه العميق للإمام مالك، فقد ردّ به على هذا الرجل، وقال له: إني أخاف عليك الفتنة والضلال! وهو يشير إلى قول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63). فلمن تكون الفتنة؟ ولمن يكون العذاب الأليم؟ يقول تعالى في الآية: هي لمن خالف أمر الرسول [، وهديه في فعله وقوله، والإمام مالك قال له: إذا رأيت أن الإحرام من بيتك بالمدينة أفضل من الإحرام من الموضع الذي أحرم منه رسول الله [، فمعنى ذلك: أنك قد خصصت بفضل لم يخص به رسول الله [ فصرت في منزلة وعبادة هي أفضل من المنزلة والعبادة التي كان عليها الرسول [، وإذا ظننت ذلك فقد هلك؟ لأن الله تبارك وتعالى قد جعل منزلة رسوله [ من الدين والعلم منزلة لا يصلها أحد من الأمة.
وقد قال [: «والذي نفسي بيده أني أتقاكم لله وأعلمكم به « متفق عليه. فأتقى الناس هو رسول الله [، وأعلم الناس بالله، وبأسمائه وصفاته هو رسول الله[، وأعلم الناس وبدينه وبشرعه هو أيضا ، فلا يمكن أن يستدرك مستدرك على رسول الله [ أحد، ولا أن يقول إني أفعل هذا وإن لم يفعله رسول الله [، كما يحصل من كثير من المبتدعة الذين يحتفلون مثلا بمولده[ ويعتقدون أنهم سبقوا إلى خير لم يسبق إليه المهاجرون والأنصار! بل لم يسبقهم إليه سيد المهاجرين والأنصار وهو رسول الله [، فمعنى ذلك أنهم سبقوهم إلى الفضل والعبادة والدرجة، والعياذ بالله.
ثم قال: «سمعت هذا من النبي [، وبلغني أن النبي [ قال: «ولأهل اليمن يلملم». هذا من دقة الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما وإتقانه للحديث ، فإنه ميز ما سمعه مشافهة عن النبي [ عما بلغه عنه من طريق صحابي آخر، والصحابة كما تعلمون كلهم ثقات وعدول، وإنما قد يحصل الوهم لبعض الصحابة أحيانا والنسيان لأنهم بشر، ويعرف ذلك إذا عرضت مروياته على مرويات الآخرين من الصحابة .
فوقّت النبي [ لأهل اليمن ميقات اسمه: يلملم، وهي المعروفة اليوم بالسعدية.
قوله: «وذكر العراق» ولم يذكر في الحديث: من الذي ذكر العراق في السؤال؟ فقال ابن عمر: لم يكن عراق يومئذ، يعني لما سأله سائل: ما ميقات أهل العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن عراق يومئذ. المقصود أنه لم يكن بأيدي المسلمين عراق يومئذ، لأن العراق في عهد النبي [ كانت بأيدي كسرى ونوابه من الفرس والعرب، يعني جزء منها بيد الفرس وجزء بيد العرب من المناذرة، فكأنه يقول له: لم يكن في العراق مسلمين حينئذ حتى يوقت لهم ميقاتا.
ويمكن أن يقال: النبي [ ذكر أهل الشام مع أنهم لم يسلموا في عهده [!
والجواب عن هذا: أن ابن عمر لعله أراد الكوفة والبصرة، وهما مصران أنشئا في عهد عمر رضي الله عنهما، ولم يكونا في عهده [.
وهذا الحديث هو ما علمه ابن عمر، لأنه قد جاء في الحديث الصحيح: أن النبي [ «وقت لأهل العراق ذات عرق» وهذا ثابت عنه [.
واستدل أهل العلم بتوقيته [ لأهل الشام الميقات الذي يحجون منه ويعتمرون، ولأهل العراق الميقات الذي يحجون منه ويعتمرون أن النبي [ يكون قد بشر أمته أو بشر أصحابه بأن هذه البلاد ستصير وتؤول إلى ملك المسلمين، حتى أنهم سيحجون منها ويعتمرون، وهذه بشارة نبوية.
وأيضا: هي دلالة من دلالات نبوته [، وإخباره بالغيب الذي لم يحصل بعد .
لاتوجد تعليقات