الجهاد …تعريفه -أحكامه – ضوابطه- ضوابط جهــاد الطلب
فضائل الجهاد كثيرة جداً؛ فهو من أفضل القُربات، ومن أعظم الطاعات، وهو ذروة سنام الإسلام، وبابٌ عظيم من أبواب الشريعة الغراء؛ يقوم به ذوو الفضل والشرف والسُّؤدد في الدّين، دعوة ودفعاً؛ لما يترتّب عليه من مصالح عظيمة لأمة الإسلام، من نصر للمؤمنين، وإعلاء لكلمة الدين، وقمع للمنافقين والكافرين، وتسهيل لانتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج للعباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام، وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين، واستكمالا لما بدأناه في الحلقة السابقة في الحديث عن ضوابط جهاد الطلب نقول:
لا قتالَ لمن لم تبلغه دعوة الإسلام
لا قتالَ لمن لم تبلغه دعوة الإسلام، إلا بعد عَرض الإسلام عليه، أو الجزية، فإنْ أبى فالقتال: ففي الحديث: عن سُليمانَ بنِ بُرَيْدَةَ عن أَبيه قال: كَانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذا أَمَّرَ أَمِيراً على جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، ومَنْ معهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قال: «اغْزُوا باسْمِ اللَّهِ فِي سبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تَمْثُلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وإِذا لَقِيتَ عدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُمْ إِلى ثَلَاثِ خصالٍ أَو خِلَالٍ؛ فأَيَّتُهُنَّ ما أَجَابُوك؛ فَاقْبَلْ منهم، وكفَّ عنهم، ادْعُهُمْ إِلَى الإِسلامِ؛ فَإِنْ أَجابُوكَ فَاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم. ثُمَّ ادْعُهُم إِلى التَّحَوُّلِ مِنْ دارِهِم إِلى دَارِ المُهاجِرِين، وأَخبِرهُم أَنَّهم إِنْ فَعَلُوا ذلك؛ فلهم ما للمُهاجِرِين، وعليهم ما على المُهَاجِرِين، فإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا منها؛ فأَخبِرْهُم أَنَّهم يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ المسلمينَ ، يَجرِي عليهم حُكْمُ اللَّهِ الَّذي يَجرِي على المُؤْمنينَ، ولا يَكونُ لهم فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فإنْ هم أَبَوْا؛ فَسَلهُم الجزْيَةَ فإِنْ هم أَجَابُوك، فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم ، فَإِنْ هم أَبَوْا؛ فاسْتَعِنْ باللَّهِ وقاتِلهم». رواه مسلم وأحمد والأربعة.
اشتمل هذا الحديث على جملة من الفوائد والأحكام منها:
فقوله: «في خاصة نفسه» أي: أوصاه في حقِّ نفسه ولاسيما بتقوى الله، «وبمن معه من المسلمين خيرا» أي: وأوصاه بخير بمن معه من المسلمين .
قوله: «ولا تَغْدِرُوا، ولا تَمْثُلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» فيه: نهى الإسلام عن الغدر ولو مع العدو، والتمثيل بالقتلى من الكفار، والنهي عن قتل الأطفال، وكذا النساء، والشيوخ ، والعجزة، كما جاء في أحاديث أُخر، ويشمل غير المسلمين جميعا من اليهود، والنصارى ، والمشركين وغيرهم خصال أو خِلال شكٌ من الراوي، والخصال والخلال بكسرهما، جمع الخصلة والخلة، وهما بمعنى واحد؛ فأيتها وفي بعض النسخ أيتهن، والضمير للخصال، أجابوك إليها أي: قبلوها منك فاقْبل منهم، وكف عنهم أي : امتنع عن إيذائهم .
قوله: «ادْعهم إلى الإسلام» هذه أول الخصال الثلاث، «ثم ادْعهم إلى التحول» أي: الانتقال إلى دار المهاجرين أي: المدينة، وهذا من توابع الخصلة الأولى، بل قيل: إن الهجرة كانت من أركان الإسلام قبل فتح مكة .
«وأعلمهم إن فعلوا ذلك» أي : التحول «أن لهم ما للمهاجرين» أي : من الثواب، واستحقاق مال الفيء.
قال الخطابي: إنّ المهاجرين كانوا أقواماً من قبائل مختلفة، تركوا أوطانهم وهجروها في الله -تعالى- واختاروا المدينة وطناً، ولم يكنْ لأكثرهم بها زرعٌ ولا ضرع ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق عليهم مما أفاء الله عليه أيام حياته، ولم يكنْ للأعراب والبدو في ذلك حظٌ إلا مَن قاتل منهم، فإذا شهد الوقعة، أخذ سهمه وانصرف إلى أهله .
قوله: «وأن عليهم ما على المهاجرين» أي: من الجهاد والنفير ، أي وقتٍ دُعوا إليه لا يتخلّفون، والأعراب مَنْ أجاب منهم وقاتل أخذ سهمه، ومَن لم يخرج في البعث فلا شيء له من الفيء، ولا عتب عليه ما دام في المجاهدين كفاية، قاله الخطابي.
قوله: «فإنْ أبوا» أي: عن التحول «يَكُونُونَ كأعراب المسلمين» أي: الذين يسكنون في البوادي «يُجرى عليهم» بصيغة المجهول حكم الله من وجوب الصلاة والزكاة وغيرهما والقصاص والدية ونحوهما «في الفيء والغنيمة» الغنيمة: ما أصيب من مال أهل الحرب، وأوجف عليهم المسلمون بالخيل والركاب، والفيء هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حربٍ ولا جهاد.
قوله: «فإنْ هم أبوا» أي: عن قبول الإسلام . «فادْعهم إلى إعطاء الجزية» هذه هي الخصلة الثانية «فإن أجابوا» أي : قبلوا بذل الجزية . «فاقبل منهم» أي: الجزية، «فإنْ أبوا» أي: عن الجزية، فاستعنْ بالله وقاتلهم، هذه هي الخصلة الثالثة.
وفي هذا الحديث: بيان أنَّ القتال للمشركين والكافرين لا يكون ابتداء ، إلا بعد هذه الخصال الثلاث، أما ما جاء عن نَافِعٍ مولى ابن عمر: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وهم غَارُّونَ، وأَنْعَامُهم تُسْقَى على المَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُم، وسَبَى ذَرَارِيَّهُم، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. قال نافع: حدَّثَنِي به عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ وكانَ فِي ذلكَ الجَيْشِ». فقد حمله أكثر العلماء على جواز المقاتلة قبل الدعاء إلى الإسلام في حق الكفار الذين قد بلغتهم الدعوة من غير إنذار .
وقد بوّب عليه النووي في كتاب: (الجهاد والسير): باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، من غير تقدم الإعلام بالإغارة، أي: يجوز الإغارة إذا كانت قد بلغتهم الدعوة على سبيل العموم، وإن لم يكن يبلغهم إنذار خاص، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم؛ فدعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قد بلغت واشتهرت وظهرت في أحياء العرب وقبائلهم، وتبينت لهم فلم يبق عذر لأحدٍ، فلم يبقَ إلا الإسلام أو القتال؛ فإذا لم يستجيبوا ولم يسلموا؛ فليس لهم إلا القتال؛ ولهذا أغار عليهم صلى الله عليه وسلم ، وإن ْكانوا غافلين، أما إذا كان بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق؛ فلا يجوز إلا بعد إبلاغهم، ونبذ العهد إليهم، ومثل هذا عموم المشركين في كل زمان ومكان، إذا كانت قد بلغتهم دعوة الإسلام ، وظهرت لهم وبانت .
قال النووي: وهناك قول ثالث: إنه يجب إعلامهم إنْ لم تبلغهم الدعوة، ولا يجب إنْ بلغتهم، لكن يستحب، وهذا هو الصحيح، وبه قال نافع مولى ابن عمر، والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور، قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه؛ فمنها هذا الحديث – يعني حديث بريدة السابق - وحديث قتل كعب بن الأشرف، وحديث قتل أبي الحقيق .انتهى
لا قتال لمن يقيم الصلاة ، ويُؤذِّن لها
أما الضابط السادس فهو لا قتال لمن يقيم الصلاة، ويُؤذِّن لها؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أنْ يُبيت قوماً ويُغير عليهم، انتظر فإذا سمع النداء لم يقاتلهم، فعن أَنسِ بنِ مالكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كانَ إِذا غَزَا بِنَا قَوْمًا، لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حتَّى يُصبِحَ ويَنظُرَ؛ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا ؛ أَغَارَ عَلَيْهِم .
قال: فخَرَجْنَا إِلى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِليهم لَيلًا؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ ولمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ وإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم ، قال: فَخَرَجُوا إِلَينا بِمَكاتِلِهِم ومَسَاحِيهم، فلمَّا رَأَوْا النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم قالوا: مُحمَّدٌ واللَّهِ، مُحمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. قال: فَلمَّا رَآهُم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: اللَّهُ أَكبرُ ، اللَّهُ أَكبرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلنَا بِساحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ». رواه البخاري في كتاب الأذان: باب ما يحقن بالأذان من الدماء .
وعن أنس: قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغير إذا طلع الفجر، وكان يَستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمْسك، وإلا أغار». رواه مسلم؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر على مشارف البلدة، فإنْ سمع مناديا ينادي بالأذان لم يُغر عليهم، وعصم دماءهم بذلك، فإنْ لم يسمع دلَّ على أنها بلاد شرك وكفر، فأغار عليهم ولم ينذرهم؛ لسبق الإنذار العام لهم ولغيرهم، قال الخطابي: فيه أنَّ الأذانَ شِعار الإسلام، وأنه لا يجوز تركه، ولو أنّ أهلَ بلدٍ اجتمعوا على تركه، كان للسلطان قتالهم عليه اهـ .
فدلت الأحاديث الصريحة على حقن الدماء عند وجود الأذان بالديار؛ فما القول فيمن يقوم بعمليات قتالية واستشهادية -زعموا- في ديار المسلمين؟! وبين أُناس تُقام فيهم الصلوات الخمس، ويصومون رمضان، ويحجون ويعتمرون! ويؤمر فيهم بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر! فهل قتل المسلمين المصلين يسمى جهاداً؟!
لاتوجد تعليقات