رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 30 أبريل، 2018 0 تعليق

من ضوابط الرد على المخالف – نهيُ السلف عن إطلاق الألفاظ الكلامية التي لا أصل لها في الشرع

 

 لم يمنع الإسلام من المجادلة التي يتوصل بها إلى بيان الحق وتجليته كما قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125)؛ ولذلك تأتي هذه الحلقات في آداب الرد على المخالف وضوابطه ومناظرته، واستكمالاً للحديث عن القاعدة الثالثة عشرة من ضوابط الرد على المخالف وهي: التوقّف عند الإيهام في الألفاظ، والاستفصال عند الإجْمال في الكلام نقول: ذكرنا أن كثيرا ممن تكلم بهذه الألفاظ المجملة؛ كان يظن أنه ينصر الإسلام بهذه الطريقة، وأنه بذلك يثبت معرفة الله -تعالى- بأسمائه وصفاته، وتصديق رسوله -صلى الله عليه وسلم -، فوقعت عندهم أمور كثيرة من الخطأ والبدع والضلال.

البدعة في هذا الأمر

     البدعة - في هذا - لا تكون حقاً مَحْضاً، ولا باطلاً محضاً؛ إذْ لو كانت حقاً محضاً موافقاً للسُّنة لما كانت باطلاً، ولو كانت باطلاً محضاً لما خفيت على الناس، ولكنها تشتمل على حق وباطل، وقد لبَّس صاحبها الحق بالباطل: إما مخطئاً غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد.

وهذه الطرق التي يسلكها المتكلمون ومن تابعهم أحسن أحوالها أنْ تكون عوجاء طويلة، قد تهلك، وقد توصل؛ إذْ لو كانت مستقيمة موصّلة لجاءت في نصوص الكتاب والسنّة، ولما عدل عنها السلف، فكيف إذا تيقنوا أنها ضالة مهلكة فاسدة؟!

     ويضرب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مثالاً لذلك، بمن ترك سلوك الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مكة، وسلك طريقاً بعيدة لغير مصلحة راجحة، فهذا يكون تاركاً لما يُؤمر به، فاعلاً لما لا فائدة فيه، أو ما ينهى عنه. وكذلك إذا كانت تلك الطريق يشك في كونها موصلة أو مهلكة؛ فإنه لا يجوز سلوكها أيضاً.

النَّهي عن إطْلاق النفي أو الإثبات

ولهذا يوجد كثير في كلام السلف: النَّهي عن إطْلاق النفي أو الإثبات في مثل هذه المواطن، ومن كلامهم في ذلك:

     قول الإمام أحمد -رحمه الله- في القرآن: «إذا سأل الجهميُّ فقال: أخبرونا عن القرآن، هو الله أو غير الله؟ قيل له: وإن الله -جل ثناؤه- لم يقل في القرآن: إنّ القرآن أنا، ولم يقل: غيري، وقال: هو كلامي، فسميناه باسم سماه الله به، فقلنا: كلام الله، فمن سمى القرآن باسم سماه الله به كان من المهتدين، ومَنْ سماه باسم غيره كان من الضالين»، وفي مسألة الجَبْر: قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: رجلٌ يقول: إنّ الله أجْبر العباد! فقال: هكذا لا تقل! وأنكر هذا، وقال: يُضل من يشاء، ويهدي من يشاء.

     وقال أنبأنا المروذي قال: كتب إلى عبد الوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري، وقال: إنه تنزه عن ميراث أبيه ; فقال رجلٌ قدري: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه أحمد بن رجاء فقال: إن الله جبر العباد على ما أراد، أراد بذلك إثبات القدر، فوضع أحمد بن علي كتابا: يحتج فيه فأدخلته على أبي عبد الله فأخبرته بالقصة، فقال: ويضع كتابا؟! وأنكر عليهما جميعا: علي ابن رجاء حين قال جبر العباد، وعلى القدري الذي قال: لم يجبر، وأنكر على أحمد بن علي في وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب، وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه؛ لمّا قال: «جبر العباد».

فقلت لأبي عبد الله: فما الجواب في هذه المسألة؟ قال يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.

     وفي كتاب السنة للخلال: سُئل الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: «أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أنْ يُجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدّر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحبّه». وقال الأوزاعي: «ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن ولا السنة، فأهاب أنْ أقول ذلك، ولكن القضاء، والقدر، والخلق، والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».

     وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان؛ في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة، وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي؛ لأنَّ الزبيدي نفى الجبر، والأوزاعي منع إطلاقه؛ إذْ هذا اللفظ قد يحتمل معنى صحيحا؛ فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل»، وكذلك إثباته قد يقتضي إثبات الحق والباطل، والصواب الإعراض عنه، أو التفصيل في الجواب.

الاستفصال في بيان معاني الألفاظ المجملة

     فالطريق الشرعي إذاً للتعامل معها مع المخالف، أنْ يُبين له ما وافق الحق وما خالفه، وهذا من الحُكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهو مثل الحُكم بين سائر الأمم بالكتاب؛ فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يُعبرون عنها بوضعهم وعُرفهم، ويشترط العلماء فيمن يسْتفصل في بيان الألفاظ المجملة شرطين وهما:

أنْ يكون عارفاً بمعاني الكتاب والسنة.

- الثاني: أن يكون عارفاً بمعاني ألفاظ المخالفين ومرادهم منها، لتقابل المعاني الشرعية بمعاني المخالفين ليظهر الموافق والمخالف.

والاستفصال في الألفاظ المجملة نافع في الشرع والعقل:

- أما الشرع: فإنَّ علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله؛ فكل ما ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاله فعلينا أنْ نصدّق به، وإنْ لم نفهم معناه؛ لأنا قد علمنا أنه الصادق المصدوق، الذي لا يقول على الله إلا الحق.

تنازع الأمة

وما تنازعت فيه الأمة من الألفاظ المجملة؛ فليس على أحد أنْ يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء، لا في النفي ولا في الإثبات، حتى يستفصل ويبين له معناه، ويكون المعنى صواباً: إذا كان موافقاً لقول المعصوم.

- أما العقل: فمن تكلم بلفظٍ يحتمل معاني لم يُقبل قوله ولم يرد حتى نستفسره ونستفصله؛ ليتبين المعنى المُراد، ويبقى الكلام في المعاني العقلية، لا في المنازعات اللفظية.

- يقول (طاش كبرى زاده) «وهو مؤرخ تركي واسمه أحمد بن مصطفى» يقول في أصول المناظرة: وليجتنبْ فيها عن الإطْناب ثم عنْ الإيجاز والخِطاب إلى رفيعِ القَدْر والمَهابة وعَنْ كلام شَابَه الغرابة ومجمل من غير أنْ يفصلا كذا تعرض لما لا مدخلا

المثال الثالث: العلو

     ومثال آخر لمنهج السلف في هذه المسألة: ما أورده الإمام الذهبي في كتاب (العلو) من كلام أبي بكر محمد بن الحسن الحصري القيرواني، الذي ساق أقوال جماعة من العلماء في مسألة الاستواء، ثم قال: «وهذا هو الصحيح الذي أقول به، من غير تحديد، ولا تمكن في مكان، ولا كون فيه ولا مماسة».

قال الذهبي معلقاً على ذلك: «سَلْب هذه الأشياء وإثباتها مداره على النقل؛ فلو ورد شيءٌ بذلك نطقنا به، وإلا فالسكوت والكف أشبه بشمائل السلف».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك