رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 16 أبريل، 2018 0 تعليق

من ضوابط الرد على المخالف – نهيُ السلف عن إطلاق الألفاظ الكلامية التي لا أصل لها في الشرع

لم يمنع الإسلام من المجادلة التي يتوصل بها إلى بيان الحق وتجليته كما قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل: 125؛ ولذلك تأتي هذه الحلقات في آداب الرد على المخالف وضوابطه ومناظرته، واليوم نتكلم عن القاعدة الثالثة عشرة من ضوابط الرد على المخالف وهي: التوقّف عند الإيهام في الألفاظ، والاستفصال عند الإجْمال في الكلام.

     فإذا أورد المخالف لفظاً مبهماً، أو كلاماً مُجملاً، يَحتمل حقاً وباطلاً، لم يكن لنا إثبات اللفظ أو نفيه، بل الواجب التوقف، وليس ذلك لخلو القولين عن الحق، ولا لقصور أو تقصير في بيان الحق؛ ولكنْ لأنّ اللفظ مجمل، والعبارة موهمة، قد تكون مشتملة على الحق والباطل، ففي إثباتها إثبات الحق والباطل، وفي نفيها نفي الحق والباطل، فالواجب الامتناع عن كلا الإطْلاقين، ثم الاستفسار عن مراد صاحبها بها؛ فإنْ أراد بها حقاً قبل، وإنْ أراد بها باطلاً رُد، وبعد اختيار المعنى الصحيح المراد من العبارة المُوهمة، يمنع من إطلاقها، ويُعطى للمعنى لفظه الشرعي، حتى ينتفي عنه الإيهام والإجمال.

الألفاظ الكلامية

     وقد نَهَى السلفُ عن إطْلاق الألفاظ الكلامية، التي لا أصل لها في الشرع، ولا هي صحيحة في العقل، بل اعتصموا بالكتاب والسُّنة، وأعطوا العقل حقّه، فكانت موافقة لصريح المعقول، وصحيح المنقول، ولم يطلقوا في النفي والإثبات ألفاظاً مجملة مبتدعة، كما قال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: 153، وقال -سبحانه-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} الأعراف: 3، وقال -سبحانه-: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} طه: 133.

طريقة الكتاب والسنة

     فهذه طريقة الكتاب والسنة، وسبيل سلف الأمة؛ فإنّ الله -سبحانه وتعالى- ضرب الأمثال في كتابه، وبيّن بالبراهين العقلية الصحيحة توحيده وربوبيته، وصدق رسله، وأمر المعاد وغير ذلك، وأجاب عن شُبه المشركين ومعارضاتهم، كما قال -تعالى-: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} الفرقان: 33.

مقامات الخطاب

وقد تختلف مقامات الخطاب في الاقتصار على الألفاظ الشرعية، أو الحاجة إلى مثل هذه الألفاظ المجملة، ومنها:

     إن كان الإنسان في مقام دفع من يُلزمه ويأمره ببدعة، ويدعوه إليها: أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقاً، وإن كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر - أيضاً - فعليه أن يعتصم - أيضاً - بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة.

المثال الأول: لفظ الجهة لله -تعالى

فلو سأل سائلٌ: هل تثبتون لله -تعالى- الجهة؟

- الجواب: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب ولا في السنة، لا إثباتاً ولا نفياً، وهو لفظٌ مجمل محتمل، ويغني عنه ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الله -تعالى- في السماء.

فالجِهة: قد يُراد بها جهة سُفل، أو جهة علو تحيط بالله -تعالى-، أو جهة علو لا تحيط به.

أما المعنى الأول: فباطل، لمنافاته العلو لله -تعالى- الثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.

والثاني: باطل -أيضاً-؛ لأنّ الله -تعالى- أعظم مِن أنْ يحيط به شيء من مخلوقاته.

وأما المعنى الثالث: فحقٌ يجب إثباته وقبوله؛ لأنّ الله -تعالى- هو العلي الأعلى، ولا يُحيط به شيء من مخلوقاته.

     فأهل السنة والجماعة يعتقدون أنّ الله -تعالى- فوق خلقه، عالٍ عليهم، بائنٌ منهم، أما مسألة الجهة هذه؛ فقد جاءت في كلام المتكلمين، ولم يتكلم بها السلف الأول -رضي الله عنهم-، لا بنفي ولا إثبات، فلم ينطقوا بذلك، بل نطقوا بإثبات العلو لله -تعالى-، كما نطق به كتابه، وأخبرت رسله، ولم ينكر أحدٌ من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة.

لفظ (الجهة) لفظٌ مجمل

     وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أكثر من موضعٍ من كتبه وفتاويه، أن لفظ (الجهة) لفظٌ مجمل، يحتمل حقاً وباطلاً، والسبيل فيما هذا شأنه من الألفاظ أنْ يستفصل عن معناه؛ فإنْ كان باطلاً رُد، وإنْ كان حقاً قُبل، وعبر عنه باللفظ الشرعي، وإليك شيئاً من كلامه -رحمه الله- في ذلك:

     فقد قال في (منهاج السنة النبوية): «وكذلك الكلام في لفظ الجهة، فإنّ مسمى لفظ (الجهة) يُراد به أمر وجودي، كالفلك الأعلى، ويُراد به أمر عدمي، كما وراء العالم، فإذا أُريد الثاني؛ أمكن أنْ يقال: كل جسم في جهة، وإذا أريد الأول؛ امتنع أنْ يكون كل جسم في جسم آخر، فمن قال: الباري في جهة؛ وأراد بالجهة أمراً موجوداً؛ فكل ما سواه مخلوقٌ له، ومَن قال: إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ، وإنْ أراد بالجهة أمراً عدمياً، وهو ما فوق العالم، وقال: إنَّ الله فوق العالم فقد أصاب، وليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون -سبحانه- في شيءٍ من الموجودات، وأما إذا فُسِّرت الجهة بالأمر العَدَمي، فالعدم لا شيء، وهذا ونحوه من الاستفسار، وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح، وباطل، يُزيل عامة الشًّبه». انتهى.

نصوص يُصدِّق بعضها بعضا

     وقال أيضاً في مجموع الفتاوى: «وقد أخبرنا أيضاً أنه قد استوى على العرش، فهذه النصوص يُصدِّق بعضها بعضا، والعقل أيضاً يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مُباين لمخلوقاته فوق سمواته، وأنّ وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له محال في بديهة العقل؛ فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني، فهذا حقٌ؛ وإذا سميتم أنتم هذا قولاً بالجهة وقولا بالتجسيم لم يكن هذا القول نافيا لما عُلم بالشرع والعقل، إذا كان معنى هذا القول والحال هذه ليس منتفياً؛ لا بشرعٍ ولا عقل، ويقال لهم ما تعنون بأنّ هذا إثبات للجهة، والجهة ممتنعة؟ أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإنْ أردتم أمراً وجودياً، وقد عُلم أنه ما ثَمَّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والله فوق سمواته بائنٌ من مخلوقاته، لم يكن والحال هذه في جهة موجودة؛ فقولكم إنّ المرئي لا بد أنْ يكون في جهةٍ موجودة، قول باطل؛ فإنَّ سطح العالم: المرئي وليس هو في عالم آخر، وإنْ فسَّرتم الجهة بأمرٍ عدمي كما تقولون: إنّ الجسم في حيّز، والحيز تقدير مكان، وتجعلون ما وراء العالم حيزاً، فيقال لكم: الجهة والحيّز؛ إذا كان أمراً عدمياً فهو لا شيء، وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي فليس هو في شيء، ولا فرق بين قول القائل: هذا ليس في شيء، وبين قوله هو في العدم أو أمر عدمي، فإذا كان الخالق -تعالى- مبايناً للمخلوقات عالياً عليها، وما ثَمَّ موجود إلا الخالق أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات فضلاً عن أنْ يكون هو -سبحانه- في شيء موجود يحصره، أو يحيط به.

     فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويُراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومَنْ تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة؛ ردُّوا عليه، ومَنْ تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة، وردَّ باطلا بباطل». انتهى.

المثال الثاني: القول بالحيِّز

الحيز لغة: من (حَوَز)، وحيّز الدار: ما انضم إليها من المرافق والمنافع، وكل ناحية على حدة: حيّز.

     ومن معانيه: الميل من جهة إلى جهة أخرى، كما في قول الله -عزّ وجل-: {إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} الأنفال: 16، قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: «هو الصائر إلى حيّز المؤمنين في القتال، لينصروه أو ينصرهم»، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وأما (الحيز) فإنه فيعل من حازه يحوزه: إذا جمعه وضمّه، وتحيّز وتفيْعل، كما أن يحوز يفعل، كما قال -تعالى-: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} الأنفال: 16، فالمقاتل الذي يترك مكاناً، وينتقل إلى آخر، لطائفة تفيء إلى العدو، فاجتمع إليها وانضم إليها، فقد تحيّز إليها.

وأما عند المتكلمين: فالتحيز أعم منه في اللغة العربية، فهم يجعلون كل جسم متحيزاً، والجسم عندهم: ما يشار إليه، فتكون السموات والأرض وما بينهما متحيزاً على اصطلاحهم، وإنْ لم يسمَّ ذلك متحيزاً في اللغة».

وأول من عُرف عنه إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، نفياً أو إثباتاً: هم أهل الكلام المحدث، الذين اتبعوا طريقة الفلاسفة قي تقرير العقائد، بقسميهم: النفاة كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة، والمثبتة الغُلاة كالمشبهة مثل بعض الفرق.

وكثير ممن تكلم بهذه الألفاظ المجملة؛ كان يظن أنه ينصر الإسلام بهذه الطريقة! وأنه بذلك يثبت معرفة الله -تعالى- بأسمائه وصفاته، وتصديق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فوقعت عندهم أمور كثيرة من الخطأ والبدع والضلال.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك