رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 10 أبريل، 2018 0 تعليق

من ضوابط الرد على المخالف – مخاطبة أهل الاصطلاح بلغتهم أبلغ في الرد عليهم

  

لم يمنع الإسلام من المجادلة التي يتوصل بها إلى  بيان الحق وتجليته كما قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل: 125)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»، وقد أخذ منه جماعة من أهل العلم وجوب المناظرة والمجادلة؛ ولذلك تأتي هذه الحلقات في آداب الرد وضوابطه على المخالف ومناظرته، واليوم مع القاعدة الحادية عشرة من ضوابط الرد على المخالف وهي: المعارضة الصحيحة هي التي يمكن طردها، ومعنى طَرَدَ القَاعِدَةَ: عَمَّمَهَا، وأَرْسَلَهَا عَامَّةً ، والقاعدة الثانية عشرة وهي مخاطبة أهل الصطلاح باصطلاحهم الخاص.

 

     ففي قصة محاجة إبراهيم -عليه السلام- لمدَّعى الربوبية، خير وسيلة للمُحاجّة، قال الله -تبارك وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة : 258).

     فلما ساوى الملحدُ نفسه بالله -تعالى- في ادعاء الإحياء والإماتة طالبه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بطرد المساواة، وهي أنّ من حقوق الربوبية التصرف في الكون، وفي كواكبه وأجرامه، ومن ذلك: أنّ الله -تعالى- يسير الشمس من المشرق إلى المغرب، فإنْ كنت صادقاً في ادعاء المساواة لله -تعالى- في الإحياء والإماتة؛ فاعْكس حركة هذه الشمس، واجعلها تسير من المغرب إلى المشرق، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

فخذ بمثل هذا الأسلوب؛ فقُل لمن يدعي الربوبية: إنْ كان ما تقولون حقا في أربابكم؛ فليأتوا بالشمس من المغرب! أو فليُحيوا الأموات! أو فلينزلوا المطر من السماء! أو فليخرجوا الزرع من الأرض!

من ينفي الصفات

     وكذلك يقال – مثلاً – لنُفاة بعض الصفات بقصد التنزيه، اطردوا حجتكم وانفوا سائر الصفات ، بل وسائر الأسماء، حتى صفة الوجود؛ لأنّ المخلوق يتصف بها؛ فمن طرد منهم ذلك لم يبق عنده إلهٌ يُعبد، ولا ربٌّ يصلى له ويُسجد! بل صار يعبد عدماً! ومن فرق بقي في التناقض، والسعيد من أثبت الصفات جميعا، مع نفي التشبيه والمماثلة بين الخالق والمخلوق في شيء منها؛ فالله -سبحانه وتعالى- الذي أبدع هذا الكون، وهذا الإنسان بهذا التناسق العجيب، والإحكام البديع، لابد أنْ يكون له الكمال المطلق في الصفات، التي لا نقص فيها بوجهٍ من الوجوه .

المدعون للربوبية

     وهؤلاء الذين يدعون الربوبية علامات النقص عليهم ظاهرة، من النوم، والمرض والموت، والتألم، والتأذي من الحرّ والبرد، والحاجة إلى الطعام والشراب، بل يحمل أحدهم النجاسة بين جنبيه، ويحتاج أن يدخل إلى الخلاء في اليوم مرة أو مرتين؛ فهل هؤلاء يصلحون أن يكونوا أرباباً؟ -سبحانك- هذا بهتان عظيم، وليس العجب أن يدعي هؤلاء هذه الدعوى، ولكن العجب كل العجب أنْ يجدوا  لهم أتباعاً يوافقونهم على ما يقولون!!

القاعدة الثانية عشرة: في مخاطبة أهل  باصطلاحهم الخاص

     فلأهل البدع أسلحةٌ عديدة، وسائل كثيرة يستعملونها لإضلال الناس، وإبعادهم عن المنهج الحق، ومن تلك الطرائق التي يستعملونها: التكلم بالعبارات المشتبهة المُجملة، لخداع الجهال من المسلمين، وخبط أذهانهم، فلا يتنبهون لهذه الإطْلاقات والإجْمالات وما فيها من الباطل، لقِصَر نظرهم وعلمهم، وقلّة إدْراكهم للحقائق الشرعية.

     وما أحسن ما قال الإمام أحمد -رحمه الله- عن أهل البدع إنهم: عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مُختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علمٍ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس، بما يُشبِّهون عليهم؛ فنعوذ بالله من فتن المضلين.

      وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ثم التعبير عن تلك المعاني إنْ كان في ألفاظه اشتباهٌ أو إجْمال عُبّر بغيرها أو بُين مراده بها؛ بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإنَّ كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظٌ مُجملة مبتدعة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظٍ ونفيها، ولو سُئل كل منهما عن معنى ما قاله؟ لم يتصوّره فضلاً عن أنْ يعرف دليله، ولو عرف دليله لم يلزم أنْ من خالفه يكون مخطئا، بل يكون قوله نوعا من الصواب، وقد يكون هذا مصيباً من وجه، وهذا مصيباً من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث. مجموع الفتاوى .

الاستغاثة

     وقال أيضاً -رحمه الله- منتقدًا بعض العبارات المجملة في ردَّه على البكري في (الاستغاثة): لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحا، وهو يعلم أنَّ المستمع يفهم منها معنى فاسداً، لم يكنْ له أنْ يطلقها لما فيه من التلبيس؛ إذْ المقصود من الكلام البيان دون التلْبيس.

طريقة السلف والأئمة

     وقال أيضاً -رحمه الله-: فطريقة السلف والأئمة: أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية، فيعبّرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومَنْ تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردُّوا عليه، ومن تكلم بلفظٍ مبتدع يحتمل حقا وباطلاً، نسبوه إلى البدعة أيضا، وقالوا: إنما قابل بدعةً ببدعة، وردَّ باطلاً بباطل. درء تعارض العقل والنقل.

المعارضون للكتاب والسنة

     وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات، إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوالٍ مشتبهة محتملة، تحتمل معاني متعدّدة، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى، والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحقٍ وباطل؛ فبما فيها من الحق يَقْبَلُ -مَن لم يُحِطْ بها علما- ما فيها من الباطل ، لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء! وهذا منشأ ضلال من ضلَّ من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع كلّها، فإنَّ البدعة لو كانت باطلاً محضا لَمَا قُبلت، ولبادر كلُّ أحدٍ إلى ردها وإنكارها، ولو كانت حقًّا محضًا لم تكن بدعة، وكانت موافقة للسُّنة، ولكنها تشتمل على حق وباطل، ويلتبس فيها الحقُّ بالباطل، كما قال -تعالى-: {ولا تَلْبِسُوا الحقَّ بالباطلِ وتَكتموا الحقَّ وأنتُم تَعلمون} (البقرة).

     فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه، ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر، ومنه: التلبيس، وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره؛ فكذلك الحق إذا لبس بالباطل، يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق! وتكلم بلفظ له معنيان: معنى صحيح، ومعنى باطل؛ فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده الباطل، هذا من الإجمال في اللفظ .

الاشتباه في المعنى

     وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان، هو حقٌّ من أحدهما، وباطل من الآخر؛ فيُوهم إرادة الوجه الصحيح، ويكون مراده الباطل؛ فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة، والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً غير صافية؛ فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوىً وتعصب؟! فسلْ مُثبت القلوب أنْ يثبِّت قلبك على دينه، وألا يوقعك في هذه الظلمات. مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: باب كذب من زعم أنّ السلف لا يدرون معاني ألفاظ الصفات .

إجمال الكلام

     قال الحافظ ابن حزم -رحمه الله-: والكلام إذا أُجمل اندرج فيه تحسين القبيح، وتقبيح الحسن، ألا ترى لو أن قائلاً قال: إن فلاناً يطأ أخته، لفحش ذلك ولاستقبحه كلُّ سامع له، حتى إذا فُسّر؛ فقال: هي أخته في الإسلام؛ ظهر فُحش هذا الإجمال وقبحه. وغيرها من كلمات أهل العلم والإيمان في هذا الباب. الأخلاق والسير في مداوة النفوس فإذا تكلم المخالف باصطلاحه الخاص، الذي اصْطلحه مُخالفاً به ما عليه الشرع من الألفاظ؛ فإنه لا يُوافق عليه على كلّ حال؛ فقد يعبر عن المعاني التي أثبتها الشرع بعبارات أخرى ليست فيه! أو أنها فيه لكن جاءت بمعان أُخر، بل قد يكون معناها المعروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن مُنتفياً باطلاً، نفاه الشرع والعقل كلفظ التوحيد عند الطوائف المنحرفة عن الإسلام.

التوحيد عند الفرق

فالتوحيد عند الفلاسفة يعنون به: إثبات الوجود المطلق، مجرداً عن الماهية والصفة! وعند الاتحادية وأصحاب وَحْدة الوجود: أنّ الرب -تعالى- هو عينُ كل موجود!

     وعند الجهمية: التوحيد هو إنكار صفات الله -عز وجل- كصفة العلو لله -تعالى- والكلام, والسمع, والبصر, وغير ذلك من الصفات التي ثبتت بالسمع والدليل، ودلَّ عليها العقل .  وعند القدرية: التوحيد والإيمان بالقدر: إنكار قدر الله -تعالى- وعموم مشيئته في الكائنات وقدرته عليها.(انظر الموسوعة العقدية).

حال المخاطِب لأهل البدع

ويدخل في ذلك أيضاً: التكلم بالألفاظ المُجْملة التي تحتمل الحقَّ والباطل، كلفظ الجهة، والحيّز والمكان، والتغير، والحركة، والجسم وغير ذلك .

فيبقى المخاطب لهم والراد عليهم متردداً بين أمور:

- الأول: أن يخاطبهم بغير اصطلاحهم، بل بالألفاظ والمعاني الشرعية؛ فحينئذ قد يقولون : إنا لا نفهم ما قيل لنا، أو أن المخاطب لنا والرادّ علينا؛ لم يفهم قولنا ومرادنا، ويلبسون على الناس، بأن الذي عنيناه بكلامنا حقٌ معلوم بالعقل أو بالذوق، وأنه موافق للشرع .

- الثاني: أن يخاطبهم بلغتهم واصطلاحهم -وقد يكون ذلك مخالفاً لألفاظ القرآن في الظاهر-؛ فحينئذ قد ينسبون المخاطب لهم إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجُهَّال باصطلاحهم الخاص .

- الثالث: أنْ يمتنع عن موافقتهم في التكلِّم بها نفياً وإثباتاً، بل يستفصل عن مرادهم: فإنْ أرادوا بهذه الألفاظ حقاً ؛ قُبِل منهم، وإنْ أرادوا باطلاً رُدَّ عليهم، وهنا قد ينسبونه إلى العجز والانقطاع . (انظر درء تعارض العقل والنقل 1/229) . فحينئذ تختلف المصلحة؛ فيختار المخاطب لهم الأسلوب الأمثل في مخاطبتهم والرد عليهم، وذلك بحسب ما يقتضيه المقام؛ فإنْ كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم وإلزامهم به، أمكن أنْ يُقال لهم : لا يجب على أحدٍ أنْ يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما لم يثبت أنَّ الرسول دعا الخلق إليه لم يكنْ على الناس إجابة مَنْ دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك.

ومثل هذا فعله مشايخ أهل السُّنة بين يدي ولاة الأمور في مناظراتهم لرؤوس المعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل البدع .

المخالف المعارض للشرع

     أما إنْ كان المخالف معارضًا للشرع بما يَذْكره، أو كان غير ملتزم بالشريعة؛ فهؤلاء لابدّ في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدَّعونها: إما بألفاظهم، وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وإنْ أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً، وإنْ لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم؛ فبيان ضلالهم، ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم، أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ .

     قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعُرْفهم، فإنَّ هذا جائزٌ حسن للحاجة؛ فمخاطبة أهل الاصطلاح بلغتهم واصطلاحهم عند الاحتياج لذلك مفيد من وجوه:

- الأول : أنَّهم يفهمون به الحجة .

- الثاني: أنَّ ذلك أبلغ في الرد عليهم ، وكسرهم ودفع باطلهم .

- الثالث : بيان تمكن أهل الحق من معاني مسائلهم ، وعرضها بأي أسلوب يقتضيه الموقف .

وقد استعمل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأسلوب في كثير من مصنفاته التي فيها الردّ على أهل البدع والفلسفة، مثل كتاب: (درء التعارض)، وكتاب: (الرد على المنطقيين)، وكذلك غيره من أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً .

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك