رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 19 أغسطس، 2013 0 تعليق

مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة(4)

 

استكمالا لما بدأنا الحديث عنه في مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة، أخذا من كتاب الشيخ صفي الرحمن المباركفوري نتناول اليوم المقوم الرابع من تلك المقومات وهو: إعداد الجيش لحماية الدولة:

إن من السنن التي تعامل معها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة التدافع، وتظهر جليًا في الفترة المدنية مع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها النبي -صلى الله عليه وسلم - ضد المشركين، وهذه السُنة متعلقة تعلقًا وطيدًا بالتمكين لهذا الدين، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251).

     فقد شرع الله -عز وجل- الجهاد لهذه الأمة، وجعله فريضة ماضية إلى يوم القيامة لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وما تركه قوم إلا أذلهم الله وسلط عليهم عدوهم.
     ومع نزول الإذن بالقتال شرع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - في تدريب أصحابه على فنون القتال والحروب، واشترك معهم في التمارين والمناورات والمعارك، وعدّ السعي في هذه الميادين من أجلِّ القربات وأقدس العبادات التي يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى-، وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم - بتطبيق قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿60﴾} (الأنفال:60).

     وقد سعى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اعتماد كل طاقات الأمة القادرة على البذل والعطاء، رجالًا ونساءً وصبيانًا وشبابًا وشيوخًا، وإلى التمرس على كل مهارة في القتال طعنًا بالرمح وضربًا بالسيف ورميًا بالنبل ومناورة على ظهور الخيل، وكان -[- يمزج خَطَّي التربية العسكرية المتوازنين: التوجيه والتدريب والأمل بالنصر أو الجنة، وتقديم الجهد في ساحات القتال، ويحض المسلمين على إتقان ما تعلموه من فنون الرماية، قال -صلى الله عليه وسلم -:  «من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أوقد عصى»، فهي دعوة إلى عموم الأمة وحتى من دخلوا في سن الشيخوخة؛ للتدريب على إصابة الهدف ومهارة اليد ونشاط الحركة.

     إن الإسلام يهتم بطاقات الأمة جميعها، ويوجهها نحو المعالي وعلو الهمة، وكان -صلى الله عليه وسلم - يهتم بالإعداد على حسب كل ظرف وحال، ويحث على كل وسيلة يستطيعها المسلمون، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي».

     إن موقف قريش في مكة من أولى الأمور التي يجب أن تعالجها قيادة المدينة، وأول خطوة في المعالجة إعداد الجيش؛ لأن أهل مكة لن يرضوا بأن يقوم للإسلام كيان ولو كان في المدينة؛ لأن ذلك يهدد كيانهم ويقوض بنيانهم، فهم يعلمون أن قيام الإسلام معناه انتهاء الجاهلية.

     وبعد أن بدأت قريش بإعلان حالة الحرب بينها وبين دولة الإسلام بالمدينة، ونزل الإذن من الله تعالى بالقتال، صار من الطبيعي أن تتعامل دولة المدينة مع قريش حسب ما تقتضيه حالة الحرب هذه، فقد اتجه نشاط الرسول -صلى الله عليه وسلم - من أجل توطيد مكانة هذه الدولة، والرد على قريش في إعلانها الحرب على المدينة، فاتجه نشاطه نحو إرسال السرايا، والخروج في الغزوات فكانت تلك السرايا والغزوات التي سبقت غزوة بدر الكبرى.

     وأولى الغزوات التي غزاها النبي -صلى الله عليه وسلم - غزوة الأبواء، ولم يقع قتال في هذه الغزوة؛ بل تمت موادعة بني ضمرة من كنانة، وكانت هذه الغزوة في صفر سنة اثنتين من الهجرة، وكان عدد المسلمين مائتين بين راكب وراجل.

     وبعدها سرية عبيدة بن الحارث، وهي أول راية عقدها رسول الله -[- وكان عدد السرية ستين من المهاجرين، وكانت قوة الأعداء من قريش أكثر من مائتي راكب وراجل، وكان قائد المشركين أبو سفيان بن حرب، وحصلت مناوشات بين الطرفين على ماء بوادي رابغ، رمى فيها سعد بن أبي وقاص أول سهم رمي في الإسلام، وكانت بعد رجوعه من الأبواء.

     وبعدها سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سِيف البحر في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعًا للفريقين جميعًا، فانصرف القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال.

     حصل بعدها أن بعث النبي -صلى الله عليه وسلم - عددًا من السرايا وحصل أيضًا بعض الغزوات الصغيرة التي لم يحصل فيها قتال إلا ما كان من سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة؛ حيث أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش في ثمانية رَهْط من المهاجرين إلى نخلة جنوب مكة في آخر يوم من رجب؛ للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش، لكنهم تعرضوا لقافلة تجارية لقريش فظفروا بها، وقتلوا قائدها عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنين من رجالها وهم: عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وعادوا بهم إلى المدينة، وقد توقف النبي -[- في هذه الغنائم حتى نزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:217)، فلما نزل القرآن الكريم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم - العير والأسيرين.

     وفي سرية عبد الله هذه غنم المسلمون أول غنيمة، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون.

أما المقوم الخامس من مقومات تلك الدولة الوليدة فهو استمرارية البناء التربوي والعلمي:

     فقد استمر القرآن المدني يتحدث عن عظمة الله وحقيقة الكون، والترغيب بالجنة والترهيب من النار، ويُشرّع الأحكام لتربية الأمة ودعم مقومات الدولة التي ستحمل نشر دعوة الله بين الناس قاطبة وتجاهد في سبيل الله. وكانت مسيرة الأمة العلمية تتطور مع تطور مراحل الدعوة وبناء المجتمع وتأسيس الدولة.

لقد أيقنت الأمة أن العلم من أهم مقومات التمكين؛ لأن من المستحيل أن يمكّن الله تعالى لأمة جاهلة متخلفة عن ركاب العلم.

     واستمر النبي -صلى الله عليه وسلم - في منهجه التربوي، يعلم أصحابه، ويذكرهم بالله -عز وجل-، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويوضح لهم دقائق الشريعة وأحكامها، وكان توجيهه -صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أحيانًا فرديًا، ومرة جماعيًا، وترك لنا الحبيب المصطفى ثروة هائلة في وسائله التربوية في التعليم وإلقاء الدروس.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك