رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 23 يوليو، 2013 0 تعليق

مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة(2)

 

استكمالا لما بدأنا الحديث عنه في مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة، أخذًا من كتاب الشيخ صفي الرحمن المباركفوري نتتناول اليوم المقوم الثاني من تلك المقومات وهو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

وقد كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائمًا منذ بداية الدعوة في عهدها المكي، وقد أكد القرآن الكريم الأخوة العامة بين أبناء الأمة في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: 103)، أما هنا فهو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة.

     لقد أسهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.

     وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدًا نافذًا لا لفظًا فارغًا، وعملًا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر، وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: 9).

     إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقًا بعقيدة تم اللقاء عليها والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، ولاسيما إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت؛ لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الالتفات لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح؛ إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكًا لأنانيته وأثرته وأهوائه.

     وعبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه- يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة؛ حيث قال: “لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: «إني أكثر الأنصار مالًا فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها».

     لم يعرف تاريخ البشر كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الفعالة، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء.
     فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله 
صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه وبعده إقامة طيبة تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة. بهذه الروح العالية والإيمان الوثيق والصدق في المعاملة تمت المؤاخاة، وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار.

     وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟ وأين النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟
     إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساسًا لتصرف كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين ونصرة الدعوة، وإنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق والعمل من أجل المجموعة خوفًا من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعًا في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية، فكل من أسلم وكل من بايع وكل من أسلمت وبايعت يعملون جميعهم بما يُؤمرون به، ويُخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة، فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى إن الواحد منهم يخاف ذهاب الأنصاري بالأجر كله.

     إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي، وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، ومع ذلك تُفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط؛ بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهرًا عدة، والمعايشة اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم.

     نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلًا فقراء، بل كانوا يملكون المال ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته -جل وعلا-، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر: 8).
     إن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى مثل هذه المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار؛ لأنه يستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم تتخلق المجتمعات الإسلامية بهذه الأخلاق الكريمة، وترتقي إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع وإلى هذه التضحيات الكبيرة.

     وقد حققت المؤاخاة أهدافها في ذلك المجتمع الرباني، فمنها: إذهاب وحشة الغربة للمهاجرين ومؤانستهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، وشد أزر بعضهم بعضًا، ومنها: نهوض الدولة الجديدة؛ لأن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك