رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 16 يوليو، 2013 0 تعليق

مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة(1)

 

   لا تقوم دولة جديدة إلا على أركان ثابتة، ومقومات قوية، ومن أهم مقومات بناء الدولة الإسلامية الجديدة هو رجل العقيدة، الذي سيقوم بإخلاص وصبر، بمهام بناء الدولة؛ بل والحفاظ على كيانها، وحمايتها من الأعداء.

     وأهل المدينة (الأنصار) هم من قام بهذه المهمة خير قيام، فأحسنوا استقبال المهاجرين، ووفروا المكان وهيؤوه جيدًا، وقاموا بحماية الدولة الإسلامية الناشئة، ووثقوا في القيادة وأطاعوها، وآمنوا بالمنهج الإسلامي وعظَّموه، وقدموه بقناعة على غيره، واستبسلوا في الدفاع عن هذه الدولة الفتية، وقدموا التضحيات المتواصلة ابتغاء وجه الله تعالى لحماية الكيان الجديد، والمحافظة عليه من الانهيار، لذلك شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ دخـوله المدينة لتثبيت دعائم الدولة الجديدة على هذه القواعد المتينة، والأسس الراسخة، ونقف هنا على تلك الأركان من كتاب الرحيق المختوم للشيخ صفي الرحمن المباركفوري رحمه الله نأخذ منه بتصرف قطوفاً مختصرة، ولاسيما في تلك الفترة العصيبة التي تمر بها الأمة؛ لعلنا نقدم مثالا يحتذى به لقادة الأمة ودعاتها، وقد ذكر الشيخ أن الأركان التي قامت عليها بناء الدولة الجديدة في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم  هي:

- أولًا: بناء المسجد.

- ثانيًا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

- ثالثًا: إصدار وثيقة المدينة التي تنظم العلاقة بين المسلمين واليهود ومشركي المدينة.

- رابعًا: إعداد الجيش لحماية الدولة.

- خامسًا: استمرارية البناء التربوي والعلمي.

أولًا: بناء المسجد:

     كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الشرك وأدناس الحياة الدنيا، روى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة راكبًا راحلته، فصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدًا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنـزل» ثم دعا رسول اللهصلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا فقالا: “لا، بل نهبه لك يا رسول الله”، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما.

     بعدها شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل مع أصحابه، فاستكمل بناء المسجد، ليكون متعبدًا لصلاة المؤمنين وذكرهم وتسبيحهم لله، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم، يدخله كل مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته.

أنشئ المسجد ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم  بأصحابه والوافدين عليه، طلبًا للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته.

     أنشئ المسجد ليكون جامعة للعلوم، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون، ومعهدًا يؤمه طلاب العلم من كل صوب؛ ليتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلًا بعد جيل.
     أنشئ ليجد الغريب فيه مأوى، وابن السبيل مستقرًا لا تكدره منَّة أحد عليه، فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة، وكم من داعٍ إلى الله تلقى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جَذَبَ القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها، وكم من أعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله 
صلى الله عليه وسلم حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إمامًا يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطرًا منيرًا في كتاب التاريخ الإسلامي. أنشئ المسجد ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استُنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة.

     أنشئ المسجد ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركنًا في زواياه، ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد ليتمكن نبي الله صلى الله عليه وسلم من عيادتهم، والنظر في أحوالهم، والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب تقديرًا لفضلهم.

     أنشئ المسجد ليكون مركزًا لبريد الإسلام، منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلمًا أو حربًا، وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعى الشهداء في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون؛ وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.

     أنشئ المسجد ليكون مرقبًا للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويرقبها، ولاسيما الأعداء الذين يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية.
المسجد له تاريخه وله دوره في حياة المسلمين، يجهل كثير من المسلمين تاريخ مسجدهم ودوره وما يجب عليهم تجاهه.

     بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ليكون روضة من رياض الجنة، إمامه محمد صلى الله عليه وسلم وتلاميذه: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت، ومواده المقررة وحي الله -عز وجل- وأما مطلبه فهو أن تكون كلمة الله هي العليا.

     عُمّار المساجد هم أولياء الله -عز وجل- وأحبابه من خلقه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(التوبة: 18)، لذلك فأعداء هذا الدين بجميع مللهم ونحلهم لا يريدون للمساجد أن تُعمر، ولعلمهم بأن المساجد تهدد بقاءهم وتحول بينهم وبين شهواتهم، وتُنهي تواجدهم في الأرض، فهم لذلك لا يريدون عمارتها، وإنما يسعون جاهدين إلى هدمها وإزالتها من الأرض، ولذلك وصفهم الحق -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(البقرة: 114).
     المساجد بيوت الله -عز وجل- في الأرض، أطهر ساحات الدنيا، وأنقى بقاع الأرض، فيها تتآلف القلوب المؤمنة، وتنـزل رحمات الرب، وتهبط ملائكة الله، وتحل السكينة والخشوع.

     المسجد هيئة لتأديب القلوب وتهذيب الأرواح، فالقلوب لا تتأدب إلا بالتربية المتأنية والكلمة اللينة والقدوة الحسنة، وهذه كلها وجدت في مسجده -عليه الصلاة والسلام- ولذا فمن أراد أن يربي نفسه فليلزم المسجد، ومن أراد أن يربي ولده فليُلزمه المسجد، وننصح من يقومون على تربية الناشئة أن يعودوهم على لزوم المساجد؛ فإنها خير معين على ذلك.

     ولذلك فإن المساجد في عصور السلف الصالح خرّجت قادة الدنيا وأصحاب التأثير في تاريخ الإنسانية، فالخلفاء الراشدون من أين تخرجوا؟ وأين تعلموا؟ العبادلة الأربعة والقادة الفاتحون والشهداء في سبيل الله جميعهم كانوا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الثلة الخيرة والنخبة المصطفاة الذين كانوا عبادًا للحجر فأصبحوا قادة وزعماء للبشر، وكانوا رعاة للغنم فأصبحوا سادة للأمم، جميعهم تخرجوا من مسجد المدينة، مسجد محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان مبنيًا من الطين ومسقوفًا بجريد النخيل، فماذا فعلت مساجدنا التي بنيت بأرقى الخامات؟ وصممت على أحدث التصميمات؟ هل أثرت في مسيرة هذه الأمة؟ هل أخرجت لنا وللأمة المسلمة علمًا نافعًا وعملًا صالحًا؟ هل وقفت مساجدنا سدًا منيعًا أمام حملات الغزو الفكري والعسكري والتيارات الهدامة من العولمة والحداثة والعلمانية وغيرها؟ هل بعثت الفكر من مرقده وأيقظته من سباته؟ هل شحذت الهمم وحركت المشاعر في النفوس؟ هل بثت النور في قارات الأرض؟ وهل عبرت منها الكلمات الصادقة عبر المحيطات؟.

- الجواب معروف: لا وألف لا، وذلك أمر يؤسف له، أما لماذا؟ فلأننا عمرنا مساجدنا بالبناء ولم نعمرها بالذكر والدعاء، ولأننا عمرناها بالزخارف والألوان ولم نعمرها بتلاوة القرآن، ولأننا لم نتعامل مع المسجد كما تعامل معه أولئك الكرام.

     عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». هذا هو الواقع الحالي في تعاملنا اليوم مع المساجد التي أصبحت مظاهر، وأصبحت آيات في حسن البناء وروعة الهندسة، تعجب الناظرين وتسرهم في مظهرها، إلا أنها في مخبرها وجوهرها لم تؤد رسالة، ولم تحقق هدفًا، فعقم جيلها، وسكتت ألسنتها، واختفت حلقاتها، وانطفأ نورها، وانعدم دورها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك