رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 30 يوليو، 2013 0 تعليق

مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة (3)

 

استكمالا لما بدأنا الحديث عنه في مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة، أخذا من كتاب الشيخ صفي الرحمن المباركفوري نتتناول اليوم المقوم الثالث من تلك المقومات وهو الوثيقة أو الصحيفة:

 

فقد نظم النبي -صلى الله عليه وسلم - العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتابًا أوردته المصادر التاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب أو الصحيفة، ومما جاء فيها:

- هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم.

- إنهم أمة واحدة من دون الناس.

- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدُون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

- وبنو عوف على ربعتهم.

- وبنو ساعدة على ربعتهم. ثم عدّد عددًا من القبائل.

- وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم.

- ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن.

- وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

- وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

- وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.

- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا أو يُؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

-وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد -[-.

- وإن لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يُهلك إلا نفسه وأهل بيته.

- وإن بطانة يهود كأنفسهم.

- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم -.

- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.

هذه بعض المواد التي جاءت في تلكم الصحيفة أو الوثيقة، ولنا مع هذه الوثيقة بعض التأملات:

- أولًا: تضمنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعًا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، وهذا شيء جديد في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب؛ إذ نَقل الرسول -صلى الله عليه وسلم - قومه من شعار القبلية والتبعية لها، إلى شعار الأمة التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، وقد جاء به القرآن الكريم في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:92)، وأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم، وتتحد أفكارهم، وتتحد قبلتهم ووجهتهم وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف.

- ثانيًا: جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، فقد نصت على مرجع فض الخلاف وقد جاء فيها: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم -»: والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة، وتفصل في الخلافات؛ منعًا لقيام اضطرابات في الداخل من جرّاء تعدد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول -صلى الله عليه وسلم - على الدولة.

- ثالثًا: تحديد إقليم الدولة: جاء في الصحيفة: «وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة»: إن المدينة كانت -بداية- إقليم الدولة الإسلامية، ونقطة الانطلاق ومركز الدائرة، وقد أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم - أصحابه ليثبتوا أعلامًا على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقًا وغربًا، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب.

     ثم اتسع الإقليم باتساع الفتح، ودخـول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام حتى عم مساحة واسعة في الأرض والبحر وما يعلوها من فضاء، حتى وصلت حدود الدولة الإسلامية المحيط الأطلسي غربًا ومناطق واسعة من غرب أوربا وجنوبها ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها، إلى أكثر أهل الصين وروسيا شرقًا وكل شمال إفريقيا وأواسطها.

     إن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية، فهو يبدأ من عاصمة الدولة المدينة، ويتسع حتى يشمل الكرة الأرضية بأسرها، قال الله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128)، كما أن مفهوم الأمة مفتوح وغير منغلق على فئة دون فئة، بل هي ممتدة لتشمل الإنسانية كلها، إذا ما استجابت لدين الله تعالى الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا، فالدولة الإسلامية دولة الرسالة العالمية، لكل فرد من أبناء المعمورة نصيب فيها، وهي تتوسع بوسيلة الجهاد في سبيل الله تعالى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك