رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 19 أكتوبر، 2015 0 تعليق

قواعد الترجيح عند المفسرين‏

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

وبعد:

فإن الناظر في كتب التفسير، كثيراً ما يقف على تعدد في الأقوال حول المراد من لفظٍ قرآني، أو آيةٍ قرآنية، أو توجيه لمعنى معين، ونحو ذلك من تعدد في الأقوال والآراء، وأحياناً يختلط على القارئ غير المتمرّس بمعرفة الخطأ من الصواب، والحق بالباطل، معرفة المراد والتفسير الصحيح.

     من أجل ذلك حرص المفسرون على وضع قواعد تفسيرية، يستعين بها المفسر في الترجيح بين الأقوال والآراء، ويستهدي بها لمعرفة القول الحق من القول الباطل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الصدد في كتابه (مقدمة التفسير): «فقد سألني بعض الإخوان أنْ أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله، بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل؛ فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغَثِّ والسمين، والباطل الواضح والحق المبين.

والعلم إما نقلٌ مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيفٌ مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.

     وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن، الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلَق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، مَنْ قال به صَدَق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.

     قال تعالى: {فإما يأتينكم مني هُدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرضَ عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتَها وكذلك اليوم تُنسى} (طه:123-126).

وقال تعالى: {قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة:15-16).

وقال تعالى: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} (إبراهيم:1-2).

     وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} (الشورى52-53).

وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة، بحسب تيسير الله تعالى، من إملاء الفؤاد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد». انتهى.

وعلى الرغم من أهمية قواعد الترجيح في تعيين المراد من آيات القرآن الكريم، ألا أن العلماء المتقدمين لم يفردوا هذه القواعد بالتصنيف والتأليف، بل بثّوها في تضاعيف تفاسيرهم، وأحياناً في مقدماتهم، وقد أفردها بالتأليف بعض أهل العلم المعاصرين.

ونحن في هذه الورقات نذكر جملة صالحة من قواعد الترجيح، التي يستعين بها المفسر في الترجيح بين الأقوال، ويتبين على ضوئها الصحيح منها من الخطأ، ويقف على الحق منها من الباطل.

مع شرحها والتمثيل لها، وهي مستلة من عدة مصادر، من أهمها كتاب: (قواعد الترجيح بين المفسرين) لـلدكتور حسين بن علي الحربي. وغيره.

نسأل الله تعالى أنْ ينفعنا بها، وأنْ يجعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته، إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

التَّمهيد

فهذه بعض التعريفات الأساسية التي يحتاجها الطالب، قبل البدء بالكلام على قواعد الترجيح في علم التفسير:

1- التفسير: هو في اللغة تفعيل من الفسر، بمعنى الإبانة والإظهار وكشف المراد من اللفظ المشكل وإيضاحه.

وفي الاصطلاح: عرّفه الزركشي بأنه «علمٌ يُفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد   صلى الله عليه وسلم ، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه».

فعلى هذا يكون يُستمد علم التفسير من كتاب الله أولاً، لأنه يُفسّر بعضُه بعضاً، ثم من حديث رسول الله   صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، ثم من علوم اللغة والنحو، والتصريف والبيان، وأصول الفقه، والقراءات.

2- المُفسّر: وهو من له أهليةٌ علمية يَعرف بها مراد الله تعالى بكلامه، قدر الوسع والطاقة، مع معرفته جُملاً كثيرة من تفسيرات كتاب الله تعالى، وممارسته التفسير عمليا، بتعليمٍ أو تأليف.

3- التعارض: هو في اللغة: التقابل، وفي اصطلاح الفقهاء والأصوليين: تقابل الحُجتين المتساويتين في القوة، على وجهٍ يُوجب كل منهما ضد ما توجبه الأخرى، في محلٍ واحد، ووقت واحد.

أما مفهوم التعارض في هذا البحث فأوسع، لأن موضوع التعارض عند الأصوليين هو: الأدلة العقلية والشرعية، أما هنا فهو: الأقوال المختلفة في التفسير، فالأصل فيها هو خلاف التضاد.

4- التَّرجيح: هو في اللغة يدل على الرزانة والزيادة.

وفي اصطلاح الأصوليين: تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لدليل، وفي موضوعنا هنا: تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل، أو لقاعدة تُقوية، وردّ ما سواه أو تضعيفه.

5- القاعدة: هي في اللغة: الأساس، وفي الاصطلاح عرفت بأنها: حُكْمٌ أغلبي ينطبق على معظم جزئياته.

6- قواعد الترجيح: هي ضوابط وأمور أغلبية، يتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة، في تفسير كتاب الله تعالى.

وموضوع هذه القواعد أقوال المفسرين المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى.

     وغاية العلم بها: معرفة أصح الأقوال وأولاها بالقبول في تفسير كتاب الله تعالى، ومن ثم العمل بها اعتقاداً إنْ كانت من آيات العقيدة، وعملا بالجوارح إنْ كانت من آيات الأحكام العملية، وسلوكاً إنْ كانت من الأخلاق والآداب، وتصفية كتب التفسير مما قد عَلِق ببعضها من أقوالٍ شاذة، أو ضعيفة، أو أخبار أهل الكتاب.

واستمدادها من: أصول الدين، وأصول الفقه، والقواعد الفقهية، وعلوم الحديث، وعلوم القرآن، ولغة العرب، واستقراء ترجيحات أئمة التفسير.

 ب- بيان متى يكون الترجيح:

مما ينبغي العلم به: أن العلمُ بالتفسير الذي أجمع عليه العلماء، هو أصح وأعلى أنواع التفسير، كإجماعهم على تفسير اليقين في قوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}  (الحجر). بأنه الموت، كما نقل هذا الإمام ابن القيم.

أو إجماعهم على تفسير (المغضوب عليهم) بأنهم اليهود، و(الضالين) بأنهم النصارى في قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) ونحوها من الآيات التي اتفق السلف على تفسيرها، وذلك بتنصيص أحد الأئمة، وحكايته لهذا الإجماع.

وكذا عدم العلم بالمخالف دليل على الإجماع، فإنه يستحيل أنْ تجهل الأمة، أو تعلم وتسكت في عصورٍ مختلفة، تفسير آيات من كتاب الله، وتفسّرها بمعان هي خلاف الصواب، ولا تفسرها بغيرها من المعاني الصحيحة.

 والكثرة الكاثرة من الآيات وقع الخلاف في تفسيرها، وهذا الخلاف لا يخلو من أحد أربعة أمور:

1- أنْ تكون جميع الأقوال محتملة في الآية، أي من اختلاف التنوع، ويكون لكل قولٍ منها ما يشهد له من نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى: {وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم} (الأنعام:3). فللعلماء فيها ثلاثة أقوال، وكل واحد منها له مصداق من كتاب الله تعالى:

- الأول: أن المعنى هو «الإله» المعبود في السماوات والأرض، وعلى هذا فجملة «يعلم» حال أو خبر، وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (الزخرف:84).

- الثاني: أن قوله تعالى: {في السموات وفي الأرض} يتعلق بقوله: {يعلم سركم} أي: وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض، ويشهد لهذا القول قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} (الفرقان:6).

- الثالث: أنّ الوقف تامٌ على قوله: {في السموات} وقوله: {وفي الأرض} يتعلق بما بعده، أي: يعلم سركم وجهركم في الأرض، ومعنى هذا القول أنه سبحانه مستوٍ على عرشه فوق جميع خلقه، مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهركم.

فهذا الخلاف محتمل، وكل الأقوال فيه حقٌ، ولا يدخله ترجيح، لكون جميع الأقوال صحيحة، وجميعها مراد من الآية، والقرآن يشهد لكل واحد منها، فلذلك هو خارج عن موضوع هذا البحث، وليس بعضها أولى من بعض.

2- أنْ تكون الأقوال متعارضة، يتعذّر حمل الآية عليها جميعاً، فلا بد أن يكون المراد أحدها، وغالب ذلك في المشترك المراد به أحد النوعين، إذ الأصوليين على عدم جواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه في وقت واحد، إذا امتنع الجمع بين مدلوليه أو مدلولاته، مثل «القُرء» فإنه يراد به الحيض، ويراد به الطُهر، ولا يمكن أن يكون المراد الاعتداد بهما معاً في آنٍ واحد.

3- أنْ تكون الأقوال ليست متعارضة مع بعضها، وإنما يكون بعضها مُعارضاً لدلالة آيات قرآنية، أو لنصوص صحيحة من السُنة النبوية، أو لإجماع الأمة.

     فمثل هذه الأقوال يجب اطّراحها وسقوط حكمها، كقول مقاتل: إن الله تعالى إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أنْ يخلقه؟! وهذا مُعارض لصريح قوله تعالى: {وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر:28-29).

     ومنها: قول بعضهم في قوله تعالى: {يا أختَ هارون} مريم. أنها أخت هارون لأبيه وأمه؟! وأنها التي قصت أثر موسى {فبصرت به عن جنبٍ وهم لا يشعرون} القصص. وهذا مخالف لحديث المغيرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: أنه سأل رسول الله   صلى الله عليه وسلم  ن قوله تعالى: {يا أخت هارون} فقال  صلى الله عليه وسلم : «إنهم كانوا يُسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم».

ومنها: مخالفة الإجماع، مثل تفسير قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} النساء. بجواز نكاح تسع نسوة؟!

4- أن تكون الأقوال المختلفة في الآية محتملة، وليس بينها تعارض، غير أنَّ بعضها أولى من بعض، لكون القرآن ودلالة ألفاظه تشهد لقول دون غيره، أو السُنة تشهد لأحدهما أو لغة العرب، أو قرائن في السياق، أو أسباب أخر تقضي بتقديم أحد الأقوال، وهذا ما يسمى بتقديم الأولى.

 وهذه الثلاث الأخيرة، هي موضوع هذا البحث، وهو:

(قواعد الترجيح عند المفسرين)

 وهي أنواع:

- أولا: قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني.

- ثانيا: قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورَسْم المصحف.

- ثالثا: قواعد الترجيح المتعلقة بالسِّياق القرآني.

- رابعاً: قواعد الترجيح المتعلقة بالأحاديث النبوية.

- خامساً: قواعد الترجيح المتعلقة بالآثار عن الصحابة ومن بعدهم.

- سادسا: قواعد الترجيح المتعلقة بالقرائن.

- سابعاً: قواعد التَّرجيح المتعلَّقة بلغة العرب.

- ثامنا: قواعد الترجيح المتعلقة بمرجع الضمير.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك