رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 15 نوفمبر، 2015 0 تعليق

قواعد الترجيح عند المفسرين‏ – قواعد الترجيح المتعلقة بالقرائن

القاعدة الأولى: قرائن السياق مرجّحة:

فإذا تنازع العلماء في تفسير آية، وكان في السياق قرينة، إما لفظة أو جملة أو غيرها، تُؤيد أحد الأقوال؛ فالقول الذي تُؤيده القرينة أولى الأقوال بتفسير الآية. فإنْ تنازعت قرينتان، كل قرينة تؤيد قولاً، رُجّح أرجح القرينتين وأقواهما. والقرينة هي: ما يُوضح المُراد لا بالوضع، بل تُؤخذ من لاحق الكلام أو سابقه، الدال على خصوص المقصود.

وقد ذكر هذه القاعدة وصرح بمضمونها جَمْعٌ، منهم ابن جرير الطبري، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان وغيرهم.

 مثاله: - قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}(الأحزاب: 37). اختلف المفسرون في الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم  في نفسه على قولين:

أ- وقوع زينب رضي الله عنها في قلبه ومحبته لها، وهي في عصمة زيد رضي الله عنه وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو؟! ومستندهم رواية موضوعة مكذوبة، مضمونها أن النبي صلى الله عليه وسلم  أتى زيداً ذات يوم لحاجة، فأبصر زينب فوقعت في قلبه، وأعجبه حُسنها، فقال: سبحان الله، مقلب القلوب، وانصرف.

ب- الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم  هو: زواجه من زينب بعد أن يطلقها زيد، فعاتبه الله -جل جلاله- على قوله لزيد: «أمْسِك عليك زوجك» بعد أنْ أعلمه الله أنها ستكون زوجه، وأنه ما فعل ذلك إلا خشية أنْ يقول الناس: تزوج امرأة ابنه.

     وهذه القاعدة تُصحح هذا القول؛ لأنّ في الآية قرينة تدل على صحته، وهي أنَّ الله عاتب النبي صلى الله عليه وسلم  لإخفائه في نفسه ما الله مُبديه، والذي أبداه الله هو: زواجه من زينب، ولم يُبد حب النبي صلى الله عليه وسلم  وشغفه بزينب ! وذلك قوله بعدها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} (الأحزاب).

2- قوله تعالى: {القول في تأويل قوله عز وجل : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} (المائدة: 27). قال الحسن: كان الرجلان من بني إسرائيل، ولم يكن ابني آدم لصلبه ! لأن القرابين إنما كانت في بني إسرائيل!

     وقال الجمهور: إنهما كانا لآدم -عليه السلام- من صُلبه، وهو ظاهر القرآن، ويؤيد هذا القول قرينة في السياق، وذلك أن الله -تعالى- قال: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} (المائدة: 31). فإنها تدل على أن هذه الحادثة، حدثت قبل أنْ يَعلم الناسُ دفن الموتى، وذلك في عهد ابني آدم لصلبه، أما في بني إسرائيل فالدفن كان معروفاً عندهم قطعا.

 القاعدة الثانية: ما تأيد بقُرآنٍ، مُقدَّمٌ على ما خلا من ذلك:

إذا تأيد أحد الأقوال بآية أو آيات أخرى، أو قراءة متواترة في الآية نفسها، فهو أولى بحمل الآية عليه؛ لأنّ تأييد القرآن له، يدل على صحته واستقامته، فإن تأيد كل قول بما سبق، خرج الترجيح بينهما عن هذه القاعدة، ويطلب من قواعد أخرى.

ويدخل تحت هذه القاعدة: ما إذا كانت الآيات ترد أحد الأقوال، وتقضي ببطلان مقتضاه، وذلك لأنه إذا رُد أحدُ الأقوال أو ضُعّف، ترجح القول الآخر، أو انحصر الراجح في بقية الأقوال.

وهذه القاعدة: تدخل تحت أول نوعٍ من أنواع التفسير، وهو تفسير القرآن بالقرآن، وقد أجمع العلماء على أنه أشرف أنواع التفسير؛ إذْ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله منه سبحانه.

وينقسم تفسير القرآن بالقرآن إلى قسمين:

أ- توقيفي، لا اجتهاد فيه ولا نظر، وهو: أنْ يكون في الكلام لبسٌ أو خفاء وغموض، فيأتي القرآن بما يُزيله ويفسره، إما بعده مباشرة، أم في موضع آخر وارد مورد البيان والتفصيل له، مثل تفسير» أولياء الله « في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس). بقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}.

ومثال ما فسر في موضع آخر قوله تعالى: {وعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ}(النحل: 118). وذلك في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (الأنعام: 146).

ب- القسم الثاني: اجتهادي، وهو المُعتمد على النظر وقوة الاستنباط، وذلك بانْ يحمل معنى آية على آية أخرى، تكون مُبينة وشارحة للآية الأولى، وهذا النوع منه المقبول ومنه المردود، كأي اجتهادٍ في تفسير آية، ولا اعتبار في قبوله بكونه فُسِّرت آية بأخرى، فكثيراً ما يجعل المفسر الآية أو لفظا منها نظيرا لما ليس مثلا، وقد يكون حمل الآية على الأخرى اجتهاداً مجرداً خلاف الراجح، لوجود معارض أقوى منه، واعتضاد غيره بوجهٍ من وجوه الترجيح.

فإذا عُلم هذا فالمعتبر هو صحة النظر، وقوة الاستنباط، والتجرد من كل هوى وبدعة، فإذا توفر هذا، وسَلِم من المعارض الأقوى منه، فهو مرجح للقول الموافق.

مثاله:

1- قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي} الأنعام. اختلف المفسرون في قوله تعالى: {هَـذَا رَبِّي} هل هو:

- مقام نظر وتأمل؟! وأن إبراهيم عليه السلام كان مسترشداً طالبا للتوحيد! حتى وفّقه الله وآتاه رشده.

- مقام مناظرة لقومه، وإقامه للحجة عليهم، ليُبين لهم بُطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والكواكب؟

     والقول الثاني هو الحق، وهو الذي يدل عليه القرآن الكريم، فمجادلة إبراهيم لأبيه وقومه على التوحيد، هي التي جاءت في القرآن، ولم يرد في القرآن أنه كان مشركاً في زمن ما، بل نفى الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- الشرك، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120).

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 161). ونفي الكون الماضي بقوله {وما كان}، يستغرق جميع الزمن الماضي.

 القاعدة الثالثة: القولُ الذي يُعظم مقام النبوة أولى من غيره:

ويَرِد هذا في تفسير بعض الآيات التي تتحدث عن قصص الأنبياء، أو أقوالهم وأعمالهم، أو خطاب الله -تعالى- لهم، خلاف بين المفسرين، وهذا الخلاف لا تخرج أقواله عن صور:

1- أنْ يرد قولٌ يُفهم منه وصف نبيٍ، بأنه ترك أو فعل أمراً، خلاف الأولى به، كالذي ورد في تفسير قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} (ص: 33). بأنه عَقَر الخيلَ وضرب أعناقها.

2- أن يُذكر قولٌ على أنه وجه في تفسير الآية، لكنه متضمنٌ للطعن في عِصمة النبوة، كأن يَصف بعض الأنبياء بأوصافٍ يتنزه عن مثلها كل مؤمن، فضلاً عن نبي أو رسول! أو ما يطعن في رسالته أو تبليغه لها، أو قصصا وحوادث فيها طعن في نبوتهم، كنسبتهم إلى الخنا والفحش أو الخديعة والمكر! فهذا مردود لا يقبل.

 والأدلة على عصمة الرسل كثيرة: نقلية وعقلية، منها:

1- قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} البقرة. فهذا العهد إنْ كان هو النبوة، وجب ألا ينالها أحدٌ من الظالمين، فوجب ألا تحصل النبوة لأحد من الظالمين الفاسقين.

2- قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} (آل عمران). وحكم الغُلول كحكم سائر الذنوب الكبيرة، فنفاه الله -تعالى- عن الأنبياء.

وقد اعتمد هذه القاعدة ورجح بها الإمام الطبري وابن العربي وابن عطية وابن كثير وغيرهم.

 مثاله:

     في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34). يذكر بعض المفسرين قصة الشيطان الذي أخذ خاتم سليمان -عليه السلام- وجلس على كرسيه، وطرده عن ملكه وتسلط على نسائه في الحيض واستمر على ذلك حتى وجد سليمان الخاتم في بطن سمكة...إلخ، وهذه قصة باطلة لطعنها في عصمة النبوة.

     وكذا ما ذكره بعضهم في قوله: {إنَّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجة} (سبأ). عن داود -عليه السلام- فذكروا أنَّ لداود -عليه الصلاة والسلام- تسع وتسعين امرأة، وأنه شغف حباً بامرأة أحد جنوده! وأنه أراد أن تكون هذه المرأة من زوجاته، فطلب من هذا الجندي أن يذهب إلي الغزو لعله يقتل، فيخلف امرأته، ثم يأخذها داود عليه الصلاة والسلام!

فهذه القصة كذبٌ بلا شك، ولا تليق بأدنى شخص له إيمان، فضلاً على أن يكون نبياً من أنبياء الله تعالى، ولكن هذه من أخبار بني إسرائيل الكاذبة، التي لا يجوز لنا نحن المسلمين أنْ نعتمدها أو نقصها، إلا على وجه بيان بطلانها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك