رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 24 نوفمبر، 2015 0 تعليق

قواعد الترجيح عند المفسرين‏ – قواعد التَّرجيح المتعلَّقة بلغة العرب

القاعدة الأولى: كلُّ تفسيرٍ ليس مأخوذاً من دلالة ألفاظ الآية وسياقها، فهو مردودٌ: فكل تفسير خرج بمعاني كتاب الله -تعالى- عما تدلُّ عليه ألفاظه وسياقه، ولم يدل اللفظ على هذا المعنى بأي نوعٍ من أنواع الدلالة: مطابقة أو تضمناً والتزاماً، أو مفهوماً موافقا، أو مفهوما مخالفا، فهو مردودٌ؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة كان ضَرباً من التخرّص والتلاعب، لا تقره لغة، ولا يرضاه دينٌ ولا عقل، وليس من تفسير كلام الله في شيء.

فالألفاظ يكون التخاطب والإفصاح عن المراد بها، وهي قوالب المعاني، فإلغاء دلالاتها إبطالٌ للغة التخاطب وفائدته.

ودلالة اللفظ هي: ما ينصرف إليه هذا اللفظ في الذهن، من معنى مدرك أو محسوس، ويدل لهذه القاعدة جملة أدلة منها:

1- أنّ الله تعالى هدَّد وتوعد الذين يُلحدون في آياته، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (فصلت: 40).

والإلحاد في آيات الله: أنْ يوضع الكلام على غير موضعه، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

2- ذم الله -تعالى- اليهود، ووصفهم بأنهم يُحرّفون الكلم عن مواضعه، أي يحملوه على غير مراده، قال تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (النساء: 46).

3- أخبر الله -تعالى- عن كتابه بأنه عربي، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}.

أمثلة: سبق ذكر بعض الأمثلة في تفاسير الباطنية، ومن ذلك أيضا:

1- فسر بعض الشيعة قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31)، بأنه الغسل عند لقاء كل إمام!

2- فسّر بعضهم أيضا قوله تعالى: {والتين والزيتون}(التين: 1)، برسول الله وعلي! و{طور سنين}(التين: 2)، بالحسن والحسين! و{البلد الأمين}(التين: 3)، بالأئمة؟!

3- قال تعالى: {والْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (النساء: 36). فسّرها بعضهم فقال: الجار ذي القربى هو القلب، والجار الجنب هو الطبيعة، والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة، وابن السبيل هو الجوارح المعطية لله!

     فهذه التفاسير خرافات بلا شك؛ إذ ما العلاقة بين المسجد والإمام، حتى يحمل عليه؟! وكذلك يقال في البقية، ففي هذا هدم للغة العربية، وإلغاء لمعاني كلماتها المعروفة بالوضع، وإلغاء للنص تبعاً لذلك، ويستطيع أي صاحب هوى أن يحرف القرآن كما يشتهي، بهذه الطريقة الضالة!

القاعدة الثانية: ليس كلُّ ما ثبتَ في اللغة، صحّ حملُ القرآن عليه:

وهذه القاعدة تضبط التفسير اللغوي وتقيده بقبول السياق له، وأنه لا ينظر في التفسير اللغوي إلى ثبوته في اللغة فحسب، بل لا بد مع ذلك من مراعاة السياق القرآني.

     ولذلك فقد أخطأ من أهمل السياق القرآني، والمعهود من اللفظ القرآني، وأسباب النزول، والقرائن التي حفّت بالخطاب حال التنزيل، واعتمد على مجرد اللغة فحسب؛ لأن في ذلك إهمالاً لغرض المتكلم به، وهو الله -سبحانه- من كلامه، ولكل كلمة معنى في سياق قد لا يحصل في سياق آخر.

وقد ذكر مضمون هذه القاعدة الزركشي في البرهان، وراعاها ابن كثير في اختياراته، وصنيع المفسرين يدل عليها.

مثاله: - فسّر أبو عبيدة معمر بن المثنى «الكلمة» في قوله تعالى: {مصدقاً بكلمة من الله} آل عمران. أي: بكتاب من الله، من قول العرب: «أنشدني فلان كلمة فلان» أي: قصيدة فلان وإنْ طالت. والصواب: أن المقصود بكلمة الله، هو: عيسى عليه السلام.

القاعدة الثالثة: يُحمل كلام الله على المعروف من كلام العرب، دون الشاذ والضعيف والمنكر:

فيجب أنْ يفسر القرآن، ويحمل على أحسن المحامل، وأفصح الوجوه، فلا يُحمل على معنى ركيك، ولا لفظ ضعيف! وإنما يحمل على المعروف من كلام العرب من الأوجه المطردة، دون الشاذة والضعيفة، ويحمل على الأكثر استعمالاً، دون القليل والنادر.

وكذلك يُحمل على المعاني والعادات والعرف الذي نزل به القرآن الكريم والسنة النبوية، دون ما حَدَث واستجد بعد التنزيل؛ وذلك لأنَّ القرآن أفصح الكلام، ونزل على أفصح اللغات وأشهرها، فلا يَعدل به عن ذلك كله، وله فيها وجه صحيح.

والمراد بالمعروف من كلام العرب: أي المستعمل في كلامهم، سواء كان ذلك الاستعمال مطرداً، وهو الذي لا يتخلّف ألبتة، ولا تعرف العرب غيره، أم غالباً، وهو: أنْ يكون أكثر الاستعمال عليه، لكنه يتخلف أحيانا قليلة.

ومدار الفصاحة على كثرة الاستعمال، فإنْ تعارض القياس القوي وكثرة الاستعمال فكثرة الاستعمال هي المقدمة.

- والشاذ في اللغة هو: ما خرج عن القياس، أي: ما خرج عن القاعدة، والقياس قسيم السماع ؛ لأن كلام العرب من كثرته لا يحصر، واللهجات مختلفة، فمن النظائر ما يجمعه قياس واحد ولا يخرج منه شيء. والضعيف: ما انحط عن درجة الفصيح، ويكون في ثبوته كلام.

والمنكر أضعف من الضعيف، وأقل استعمالا؛ بحيث أنكره بعض أئمة اللغة ولم يعرفه. والنادر أقل منه.

ويدخل تحت هذه القاعدة دخولاً أولياً: ما لم تستعمله العرب ألبتة، ولم يرد في لسانها وقت نزول القرآن، كالاصطلاحات والمعاني المستجدة والحادثة بعد عصر التزيل.

لأنّ الله تعالى خاطب العرب باللغة، والعادة والعرف التي كانت موجودة وقت نزول القرآن، لا بما حدث بعد ذلك، ومن فسّر القرآن بتلك المعاني الحادثة، فقد زعم أنَّ الله خاطب العرب بما لم يعرفوا من لغتهم.

وقد نص على مضمون هذه القاعدة: الإمام الطبري وابن عطية وابن تيمية وغيرهم.

أمثلة: 1- فسر بعضهم قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} (آل عمران). بأنه الرسول صلى الله عليه وسلم  يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد من الناس، وهذا مما لا تعرفه العرب من لغتها.

2- فسر بعضهم الطير الأبابيل، بأنها الذباب أو البعوض! وفسر الحجارة بالجراثيم التي تنقل الأمراض الفتاكة! وهذا مما لا تعرفه العرب من لسانها وقت نزول القرآن بالإخبار عن هذه الحادثة.

القاعدة الرابعة: الأصل في النص الحقيقة:

     فالأصل في الكلام أنْ يُحمل على الحقيقة، ولا يجوز العدول به عنها وله فيها محمل صحيح، فإذا تنازع المفسرون فكان منهم مَن يَحمل اللفظ على الحقيقة، ومنهم مَن يدّعي المجاز، فالحمل على الحقيقة هو الصواب، ومن ادّعى صرفَ شيء من ألفاظ النصوص عن حقيقته إلى مجازه، لم يتم له ذلك إلا بعد أربع مقدمات:

1- بيان امتناع إرادة الحقيقة وصحَّة ذلك.

2- بيان صلاحية اللفظ لذلك المعنى الذي عيّنه، وإلا كان مفتريا على اللغة.

3- الجواب عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة.

4- أنْ تكون القرينة تصلح لنقلها عن حقيقتها إلى مجازها.

هذا وقد اختلف العلماء في وقوع المجاز في اللغة والقرآن على أقوال:

1- منع وجود المجاز في اللغة، ورجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وغيرهما كالعلامة الشنقيطي.

2- منع وجوده في القرآن والسنة.

3- إثبات وجوده في القرآن والسنة واللغة.

     ويدل لهذه القاعدة قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} القمر. وهذا التيسير يتضمن تيسير ألفاظه للحفظ، ومعانيه للفهم، وأوامره ونواهيه للامتثال، والانصراف في تفسيره وفهم معانيه عن الحقيقة التي تدل عليها ألفاظه، إلى أنواع الاستعارات وضروب المجازات، منافٍ لهذا التيسير الذي أخبر الله به عن كتابه.

وقد نص على هذه القاعدة ابن عبد البر في التمهيد وابن العربي وذكرها أصحاب القواعد الفقهية كالسيوطي.

مثاله: - قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} وقد سبق.

القاعدة الخامسة: الحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية:

تنقسم الحقيقة على:

أ- لغوية: وهي استعمال اللفظ في موضعه الأصلي، كالأسد للحيوان المفترس.

ب- شرعية وهي: ما وضعها الشارع، كالصلاة للعبادة المعروفة والزكاة والصيام والحج وغيرها.

ج- عُرفية: وتنقسم إلى خاصة وعامة، فإن كان الناقل طائفةٌ مخصوصة، سُميت خاصة، وإنْ كان عامة الناس، سميت عامة.

فإذا دار الكلام بين مسمى شرعي وآخر لغوي، ولا دليل يُعين أحدهما، حُمل على الشرعي؛ لأنه عُرْفه، ويجب أنْ يُحمل كلام كل أحدٍ على عُرفه الخاص به.

     فإنْ قام دليل على تعيين أحدهما، فلا ترجيح بهذه القاعدة كقوله تعالى: {وَصَلّ علَيهِم} التوبة. فالصلاة في اللغة: الدعاء. وفي الشرع: العبادة المعروفة، لكن معناها في الآية هنا الدعاء، أي: المعنى اللغوي لقيام الدليل على ذلك، فعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بصدقة قومٍ صلّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته، فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» متفق عليه.

وقد قرّر هذه القاعدة جلة من الأئمة، انظر كتاب الزركشي وغيره.

وقد نازع في هذه القاعدة الإمام أبي حنيفة وبعض الأصوليين، فذهبوا إلى تقديم الحقيقة اللغوية على الشرعية، والأول أصح.

مثاله: قال تعالى: {وَوَيلٌ لِلمُشرِكِين * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} على قولين:

- لا يقومون بالطاعة التي تطهرهم وتزكي قلوبهم ولا يوحدون الله.

- لا يقرون بزكاة أموالهم التي فَرَضها الله فيها، ولا يعطونها أهلها.

والقول الثاني هو الراجح؛ لأن الأول فسر الزكاة بالمعنى اللغوي، بخلاف الثاني الذي فسرها بالمعنى الشرعي، والحقيقة الشرعية مقدمة في تفسير كلام الشارع.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك