رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 نوفمبر، 2015 0 تعليق

قواعد الترجيح عند المفسرين- ثالثا: قواعد الترجيح المتعلقة بالسِّياق القرآني:

القاعدة الأولى: إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده، أولى من الخروج به عنهما، إلا بدليل:

فإذا تنازع المفسرون في تفسير آية، أو جملة من كتاب الله، فمنهم من يحملها على معنى لا يخرجها من سياق الآيات، ومنهم من يحملها على معنى يخرجها من معاني الآيات قبلها وبعدها، ويجعلها معترضة في السياق، فحَمْل الآية على التفسير الذي يجعلها داخلة في معاني ما قبلها وما بعدها، أولى وأحسن؛ لأنه أوفق للنظم، وأليق بالسياق، ما لم يرد دليلٌ يمنع من هذا التفسير أو يصحح غيره.

وقد اعتمد هذه القاعدة الطبري وابن عطية وغيرهما.

 مثاله:

1- اختلف المفسرون في المعني بقوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} الأنعام:91 , على أقوال:

أ- هو رجل من اليهود ثم اختلفوا في اسمه. وقيل: جماعة من اليهود سألوا النبي  مثل آيات موسى عليه السلام.

ب- هو خبر من الله تعالى عن مشركي قريش.

ج - أنه شامل لليهود والمشركين.

والقول الثاني هو الموافق للسياق، وهو الذي رجّحه الطبري بهذه القاعدة، وذلك أنه في سياق الخبر عنهم أولاً، فأن يكون ذلك أيضا خبراً عنهم أشبه، من أنْ يكون خبراً عن اليهود، ولم يَجر لهم ذكرٌ فيكون هذا متصلاً به.

 2- اختلف المفسرون في المعني بالنِّعمة، في قوله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} (النحل: 83). على أقوال:

أ- النبي صلى الله عليه وسلم  عرفوا نبوته، ثم جحدوها وكذبوه.

ب- ما عدَّد الله ذكره في هذه السورة من النّعم، وأنّ الله هو الرازق المُنْعم بذلك عليهم، ولكنهم يُنكرون ذلك فيعبدون معه غيره، ويُنسبون لهم الرزق والنصر.

 وأولى الأقوال القول الثاني، لأنّ هذه الآية ما قبلها كله في سياق بيان نعم الله على عباده، وخصوصاً العرب.

وإنْ كانوا أيضا قد أنكروا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وجحدوها بعد العلم بها، لكن السياق كله في الأول.

وكذا قوله تعالى: {إنما يُريد الله أنْ يُذهبَ عنكم الرجسَ أهل البيت ويُطهّركم تطهيرا} الأحزاب. أنَّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم  داخلات في أهل بيته صلى الله عليه وسلم ، لأن السياق كله في نساء النبي صلى الله عليه وسلم  فكيف يخرجن عنه؟!

 القاعدة الثانية: لا يُعدل عن ظاهرِ القُرآن إلا بدليل:

     فالأصل في نصوص القرآن - وكذا السُّنة النبوية - أنْ تُحمل على ظواهرها، وتُفسر على حسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولا يجوز أنْ يعدل بألفاظ الوحي عن ظاهرها إلا بدليلٍ واضح، يجب الرجوع إليه، ولأنه لا يُعرف مراد المتكلم إلا بالألفاظ الدالة عليه، والأصل في كلامه وألفاظه أنْ يكون دالاً على ما في نفسه من المعاني، وليس لنا طريقٌ لمعرفة مراده غير كلامه وألفاظه.

والمراد بالظاهر: هو ما يتبادر إلى الذهن من المعاني.

فالأصل في النصوص أنه ليس لها معنى باطن يخالف ظاهرها.

 ويدل لهذه القاعدة ما يلي:

أ- خبر الله تعالى في كتابه أن هذا القرآن عربيٌ لا عوج فيه، وأنه تعالى فصّل آياته {كتاب فُصلت آياته قرآنا عربياً} (فصلت: 2). وهذا يعني ضرورة أن تكون معانيه جارية على ظاهر دلالة ألفاظه العربية، وإلا كان منافياً لتفصيله وبيانه، وكمال عربيته.

ب- قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} (النحل: 89).

وقوله {يُبيِّن الله لكم أنْ تضلوا} (النساء: 176).

وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره وحقيقته، يُنافي قصد البيان والإرشاد والهدى.

ج - قوله تعالى: {تبارك الذي نزّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (الفرقان:1). ولا يتم البلاغ والإنذار وقيام الحجة، إذا كان ظاهر ألفاظ القرآن غير مقصود؟!

د- إجماع الأمة على أنه يجب العمل بالظاهر، حتى يرد دليلٌ شرعي صارفٌ عنه، وأنّ صرفه عنه بغير دليل باطل.

وقد اعتمد هذه القاعدة عامة علماء الأمة، كمالك والليث والثوري وابن عيينة، والشافعي في الرسالة، وأحمد في المنقول عنه في مسائله وغيرها، وإسحاق، وابن المبارك، والطبري، وغيرهم ممن جاء بعدهم كابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي.

ولا فرق في هذا بين نصوص الأسماء والصفات وغيرها، بل قد يكون وجوب التزام الظاهر في نصوص الأسماء والصفات أولى وأظهر، لأن مدلولها توقفيٌ محض، لا مجال للعقل في تفصيله.

والمراد بالدليل الذي يجب الرجوع إليه، الدليل الذي يجوز صَرْف الظاهر له، وهو إمّا أنْ يكون عقلياً ظاهراً، أو سمعيا ظاهراً.

فمثال العقلي الظاهر: قوله تعالى: {وأتيت من كل شيء} (النمل). فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد: أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها من الملوك.

ومثله قوله {تدمر كل شيءٍ بإذن ربها} (الأحقاف: 25). فإنه قال بعده {فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم}. فعلم أنَّ المراد: تُدمر ما يقبل التدمير.

وأما الدليل السمعي: فهو اللفظي المسموع، وفي عرف الفقهاء: هو الدليل الشرعي، أي الكتاب، والسنة، والإجماع.

ومن الدليل السمعي الظاهر: وصف الله تعالى بالسمع والبصر والحياة والعلم والقدرة والكلام والاستواء على العرش، والوجه واليد، والمحبة والرضا، والبغض والغضب، ونحوها من الصفات التي يتّصف بها ربنا حقيقةً لا مجازاً.

قال ابن عبد البر رحمه الله: «أهل السُّنة مُجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلّها في القرآن الكريم والسُنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكيّفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة» اهـ.

 - أما التفسير الباطني: وهو تفسير القرآن الكريم على معان مخالفة لظاهر القرآن الكريم؛ مما يجافي معاني الكلمات والجمل في القرآن الكريم، دون دليل أو شبهة من دليل.

وهذا نجده ظاهراً في تفاسير الباطنية، الذين رفضوا الأخذ بظاهر القرآن، وقالوا: للقرآن ظاهر وباطن؟! والمراد منه: باطنه دون ظاهره؟!

 ومن أمثلة ضلالهم:

1- تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} بأن المراد بالصلاة: هي العهد المألوف، وسُمي صلاة، لأنها صلة بين المستجيبين ويبن الإمام؟! وتأويل الصيام بأنه الإمساك عن كشف السر؟!

2- تفسير الإثني عشرية قوله تعالى: {رب المشرقين ورب المغربين} (الرحمن). بأن المشرقين رسول الله وعلي؟! والمغربين الحسن والحسين؟!

وقولهم {والشجرة الملعونة في القرآن} الإسراء. أنهم بنو أمية؟!

فهذا النوع من التفسير تفسير باطلٌ وضلال وإثم، بل فيه الخروج عن الإسلام لمن اعتقد ذلك، والعياذ بالله.

 ويستدل لبطلانه بالوجوه التالية:

أ- إنه تفسير يقوم على عقيدة التحلل من التكاليف الشرعية، والرفض للشرائع والأحكام الإسلامية من حيث الحقيقة والواقع، وفي هذا نقضٌ لبناء الشريعة، وحلٌ لعُرى الإسلام.

ب- كونه غريباً عن معاني الكلمات والجمل في اللغة العربية، التي نزل بها القرآن، وتعطيل لها، وفي ذلك مخالفة صريحة لقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2).

ج- إنه يجعل القرآن ملعبة لكل أحد، يُفسره كل مفسر بما شاء له رأيه وضلاله وهواه.

هـ- إنه هدمٌ لضوابط تفسير القرآن الكريم، التي سار عليها علماء المسلمين سلفاً وخلفا.

 - ومثله ما يسمى بـ «التفسير الإشاري «وهو تفسير القرآن الكريم بغير ظاهره، لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف؟!  

مثل قولهم في قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} (طه: 24). إن المراد بفرعون هو النفس البشرية؟!

فسر بعض أهل الإشارة قوله تعالى: {تذبحوا بقرة} البقرة. بأنها النفس؟! و{اذهب إلى فرعون} بأنه القلب؟!

 القاعدة الثالثة: تُحمل معاني القرآن على أسلوبه، ومعهود استعماله، أولى من الخروج به عن ذلك:

فأولى أقوال المفسرين بالصواب، هو القول الذي يوافق استعمال القرآن في غير موضع النزاع، سواء أكان ذلك في الألفاظ المفردة، أم في التراكيب.

وسواء كان ذلك الاستعمال أغلبياً، أو مطرداً بأنْ يكون استعمالها في جميع مواردها في القرآن متفقا عليه، غير موضع الخلاف، بأن يقول مفسر قولا في آية جميع نظائرها في القرآن على خلاف هذا القول، أو عادة في أسلوب القرآن.

مثاله: قوله تعالى: {فلا أُقسم بمَواقع النُّجوم} الواقعة: 75. أي: أنها نجوم السماء، لأنه المعهود من ذكر النجوم في القرآن كله.

وليس المراد به: نجوم القرآن، أي: نزول القرآن مفرّقا.

     وكقوله تعالى: {وترى الجبالَ تحسبُها جامدةً وهي تَمر مرَّ السحاب} (النمل: 88). قال البعض: الآية تدل على أنَّ الجبال الآن في الدنيا يحسبها رائيها ساكنة، وهي تمرّ مر السحاب، وذلك دليل على دوران الأرض! وهذا القول مردود عليه بهذه القاعدة، لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها يوم القيامة، كقوله تعالى: {وتسير الجبال سيرا} {وسُيرت الجبال فكانت سراباً} {وإذا الجبال سُيرت}.

كما أنّ هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن أحوال الآخرة، فالآية قبلها {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات..}.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك