رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 21 ديسمبر، 2015 0 تعليق

قواعد الترجيح عند المفسرين‏ – تاسعاً: قواعد التَّرجيح المُتعلِّقة بالإعراب

القاعدة الأولى: يجب حملُ كتاب الله -تعالى- على الأوجه الإعرابية اللائقة بالسياق، والموافقة لأدلة الشرع:

 هذه القاعدة توجب حمل آيات التنزيل، على الأوجه الإعرابية اللائقة بسياق الآية ومعناها، والموافقة لأدلة الشرع، دون الأوجه الجافية عنها، وإنْ كان لها وجهٌ صحيح في العربية، فليس كل ما صحّ القول به في تركيب عربي صح حمل آيات التنزيل عليه؛ فللقرآن عُرفٌ خاص يجب أن يحمل عليه؛ لأنَّ الإعراب يُبين المعنى، والمعنى هو المقصود بالنص القرآني، دون الإعراب وقواعده.

وقد ذكر هذه القاعدة واستعملها عامة المفسرين، كالطبري وابن عطية وأبي حيان وغيرهم.

 مثاله: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 64).

اختلف المعربون في الموقع الإعرابي لقوله تعالى: {ومَن اتبعك} على خمسة أقوال:

1- معطوفة على الكاف المجرورة في «حسبك».

2- «من» في محل نصب، عطفا على محل الكاف، في قوله: «حسبك»؛ لأنها بمعنى كافيك، أي: الله يكفيك، ويكفي من اتبعك من المؤمنين.

3- «من» في موضع نصب بفعل محذوف، دل عليه الكلام تقديره: ويكفي من اتبعك من المؤمنين.

4- «من» في موضع رفع بالابتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبهم الله، فيكون من عطف الجُمل.

     هذه الأوجه متفقة مع القاعدة، ومتمشية مع الصحيح في معنى الآية، ولا تعارض أدلة شرعية، وإنْ وُجد تقديم لبعضها على بعض من جهة الصناعة، كالذي يقال في القول الأول، بأنه من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، وهو وإنْ كان جائزاً في أصح القولين، لكنه قليل، وإعادة الجار أحسن وأفصح.

5- «من» في محل رفع عطفاً على اسم الله -تعالى- ومعناه: حسبك الله، وحسبك أتباعك من المؤمنين. وهذا القول ضعيف بل باطل؛ لأنّ الحسب هو الكافي، ولا يصح صرف هذا لغير الله تعالى، كالرغبة والرهبة وسائر أنواع العبادات.

وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنَّ الحسب والكفاية لله وحده لا شريك له فيهما كقوله تعالى: {فإنَّ حسبك الله}.

 القاعدة الثانية: يجبُ حمل كتاب الله تعالى على الأوجه الإعرابية القويَّة والمشهورة، دون الضعيفة والشاذَّة والغريبة:

     وهذه القاعدة مُتفرعة عن قاعدة: «يجبُ حمل كلام الله على المعروف من كلام العرب، دون الشاذ والضعيف والمنكر»، لكن هذه القاعدة مختصة بالإعراب، واستعمالهم للعوامل، ووجوه ذلك قوةً وضعفاً، وتلك القاعدة في كل ما هو وارد عنهم في الألفاظ المفردة، والتراكيب والأساليب.

 مثاله: قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (الأنفال: 5).

     اختلف المعربون والمفسرون اختلافا كبيراً، في متعلّق الكاف في «كما» حتى أوصل بعضهم الأقوال إلى عشرين قولاً، منها القوي ومنها الضعيف، ومن هذه الأقوال: قول أبي عبيد في كتابه (المجاز): بأنّ مجازها مجاز القسم، كقولك: والذي أخرجك ربك؛ لأن «ما» في موضع «الذي» فجعل الكاف حرف قسم بمعنى الواو، وهذا القول غريب جدا في العربية، وفي معنى الآية، وقد ردّ الأئمة هذا الوجه وأنكروه.

قالوا: ويُبطل هذا القول أربعة أمور:

1- أن الكاف لم تجيء في اللغة بمعنى: واو القسم، بل الكاف هنا لها معنى، والواو لها معنى.

2- أن إطلاق «ما» على الله - سبحانه وتعالى – يضعَّف هذا القول؛ لأن «ما» تطلق على غير العاقل، فكيف عدها في موضع «الذي» المشار به إلى الله سبحانه وتعالى؟!

3- ربط الموصول بالظاهر، وهو فاعل «أخرج» وهذا ربما يستعمل في الشعر ولا يُستعمل هنا.

4- وصل القسم بأول السورة مع تباعد بينهما، أي: ما بين بداية السورة {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية الكريمة، فالقسم ما جاء مباشرة أو قريبا من المقسم.

فرد العلماء هذا القول؛ لأن فيه غرابة من جهة اللغة.

     وقول آخر: قول من يقول: المراد هنا {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ} أي: امض لأمرك ولو كرهوا ذلك، فالآيات التي سبقت هذه الآية الكريمة تتحدث عن الأنفال والغنائم وعن توزيعها، وتتحدث عن خروج المؤمنين لمقابلة القافلة، قافلة أبي سفيان والاستيلاء عليها؛ لذلك قال: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}.

     فأراد أنْ يقول هنا: امض في تقسيمك للغنائم والأنفال، ولو كرهوا ذلك، كما كرهوا قبلًا الخروج للاستيلاء على القافلة واغتنامها؛ حينما ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا لمقابلة وملاقاة القافلة، فبعضهم خشي من القتال، وشعر أنه في ذهابه للخروج، كأنما يُساق إلى الموت. فهذه الكاف شبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته، بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال.

هذا ما اختاره ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز)، وهو أقرب وأوضح وأرجح من تفسير أبو عبيدة السابق.

- وأخيراً: فالذي لا يَعرف أوجه القراءات، عليه أنْ ينتبه بعينيه وسمعه، عندما يقرأ القرآن، أن ينتبه إلى الفتحة، والضمة، والكسرة، وغيرها؛ لأنَّ تغيير الحركة قد يؤدي إلى تغيير المعنى كلية، بل ربما كان كفراً أحياناً - والعياذ بالله - كقوله تعالى: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة:3).

- أي: أن الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم بريئان من المشركين، لكن لو قرأها قارئ: «إن الله بريء من المشركين ورسولَه» بفتح كلمة الرسول!؛ فالمعنى يكون مختلفا تماما، بل فيه كفر! أي: أن الله بريء من المشركين، وبريء من الرسول صلى الله عليه وسلم ! وحاشاه من ذلك!!

فإذًا تغيير الحركة من ضمة إلى فتحة، يُحدث خللًا عظيماً، ويؤدي إلى فساد في المعنى هاهنا، ليس في القراءة فحسب، بل في نظم القرآن والعقيدة.

     والحمد لله اليوم المصاحف مشكولة، ومع ذلك ينبغي عرض القراءة على قارئ متقن، لئلا يقع القارئ للقرآن في مثل هذه الأخطاء، ونوصي دائمًا من يقرأ القرآن أن يهتم بالنطق الصحيح للآيات، والقراءة هي كيفية النطق الصحيح للقرآن، كما وردت عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ مما تواتر بالقراءات السبع أو العشر المعروفة.

فإذاً: علينا حينما نفسر الآيات القرآنية، أن نختار الإعراب الصحيح لها، ويكون هذا الإعراب موافقاً للنص، موافقا للمعنى، وموافقا لأدلة الشرع.

 

تنبيه مهم: من أدعياء الإسلام، بل من أعدائه من بات يوجه الافتراءات إلى كتاب الله، ويشكك الناس بكلام الله، المنزّل على رسوله[ بالحق واليقين، ويقول: إنَّ في القرآن، أخطاء نحوية! أو ما يخالف الإعراب وقواعده!

ومن ذلك: قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69)؛ حيث جاءت كلمة (الصابئون) في الآية مرفوعة، وما قبلها منصوب؟!

والجواب: وردت كلمة «الصابئين» بياء النصب في سورتي البقرة والحج؛ في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:62).

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج:17).

ووردت الكلمة نفسها بواو الرفع، في سورة المائدة؛ في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69)، أما الآيتان الأوليان فلا إشكال في إعرابهما؛ لأن الكلمة فيهما وقعت معطوفة بالواو على كلمة محلها النصب، وهي «الذين» وهي اسم إن، فنصبت، وعلامة نصبها الياء؛ لأنها جمع مذكر سالم.

وإنما محل الإشكال هو الآية الثالثة، آية سورة المائدة؛ فقد وقعت في موقعها نفسه في الآيتين الأوليين، ومع ذلك جاءت مرفوعة.

وقد ذكر النحاة والمفسرون في توضيح ذلك الإشكال وجوها عدة، وذكروا نظائرها المعروفة في لغة العرب، ونكتفي هنا بثلاثة منها مع الاختصار، هي من أشهر ما قيل فيها:

الأول: أنَّ الآية فيها تقديم وتأخير، وعلى ذلك يكون سياق المعنى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، من آمن بالله... فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك، فتعرب مبتدأً مرفوعا، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم.

فتقدير الآية: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، والصابئون كذلك. قال ابن كثير: «لما طال الفصلُ، حسن العطف بالرفع».

وقال النسفي: وفائدة التقديم: التنبيه على أنَّ الصابئين - وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً، وأشدهم غيَّاً - يتاب عليهم إنْ صحَّ منهم الإيمان، فما الظن بغيرهم؟!.

الثاني: أنّ «الصابئون» مبتدأ، والنصارى معطوفٌ عليه، وجملة من آمن بالله... خبر «الصابئون»، وأما خبر «إن» فهو محذوف دل عليه خبر المبتدأ «الصابئون».

الثالث: أن «الصابئون» معطوف على محل اسم «إن»؛ فالحروف الناسخة، إن وأخواتها، تدخل على الجملة الاسمية المكونة من مبتدأ وخبر، واسم إن محله الأصلي، قبل دخول إن عليه الرفع لأنه مبتدأ، ومن هنا رفعت «الصابئون» باعتبار أنها معطوفة على محل اسم إن.

انظر: أوضح المسالك لابن هشام شرح محيي الدين (1/352-366) , وتفسير ابن كثير والشوكاني والألوسي، عند هذه الآية.

والواجب على كل مسلم ومسلمة: قوة اليقين بدينه, والإيمان بكلام الله -سبحانه- كله، وأنّ الله حفظه من التحريف والتبديل والتغيير، كما قال الله -سبحانه-: {إنا نحنُ نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9).

 وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء:82).

قال الشيخ ابن عاشور -رحمه الله- في تفسيره: «فمما يجب أن يوقَن به: أن هذا اللفظ كذلك نَزل، وكذلك نطق به النبي [، وكذلك تلقاه المسلمون منه وقرؤوه، وكُتب في المصاحف، وهم عرب خُلَّص، فكان لنا أصلاً نتعرف منه أسلوباً من أساليب استعمال العرب في العطف، وإنْ كان استعمالاً غير شائع، لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان...» اهـ

ويجب علينا الاهتمام بالعلم الشرعي؛ ولاسيما بكتاب الله، وحديث رسول الله[، ولا يكفي المسلم الإيمان السابق المجمل، وإن كان ذلك أعظم ملجأ ومعاذ، بل يضم إلى ذلك العلم الشرعي، الذي يكون به في مأمنٍ من أن تهز إيمانه هذه الشبهات وأمثالها؛ مما يثيره أعداء الدين من الملاحدة والمنافقين وغيرهم.

هذا ما تيسر جمعه وبيانه في هذا البحث المهم، من مباحث علوم التفسير، نسأل الله -تعالى- أنْ ينفع به، وأنْ يجعلنا من أهل القرآن العظيم، الذين هم أهل الله -تعالى- وخاصته، إنه سميع قريب، مجيب الدعاء.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك