رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 23 مايو، 2016 0 تعليق

فَضَائلُ الجِهاد (2)

كل أَمْر أَمَر الله به هو من الجهاد الذي يسعى المسلم للقيام به، وكل نَهْي نهَى الله عنه، فتركه العبد لله، هو من الجهاد في سبيل الله

الجهاد هو الصفقة المعقودة بين الله وبين عباده المؤمنين؛ لأن المؤمن قد باع نفسه وماله لله -عز وجل- وأنه -سبحانه- قد تقبّل هذا البيع الرابح ، وجعل ثمنه الجنة السرمدية

 

فضائل الجهاد كثيرة جداً؛ فهو من أفضل القُربات، ومن أعظم الطاعات، وهو ذروة سنام الإسلام، وبابٌ عظيم من أبواب الشريعة الغراء، يقوم به ذوو الفضل والشرف والسُّؤود في الدّين، دعوة ودفعاً؛ وما ذاك إلا لما يترتّب عليه من مصالح عظيمة لأمة الإسلام، من نصر للمؤمنين، وإعلاء لكلمة الدين، وقمع للمنافقين والكافرين، وتسهيل لانتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج للعباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام، وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين، واليوم نستكمل الحديث عن فضائل الجهاد فنقول:

لولا الجهاد ما عمرت المساجد

7- قول الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(التوبة : 19-22).

فعمارة المساجد ولاسيما بيت الله الحرام -فضله عظيم عند الله -تعالى - ولكن يفضله الجهاد في سبيل الله؛ لأنه لولا الجهاد في سبيل الله، ما عُمِرت المساجد، ولا ارتفع منارها، بل تُهدَّم وتُخرّب، ويصد الناس عنها ويمنعون، وعن سبيل الله عامة .

     قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «فأخبر -سبحانه وتعالى- أنه لا يستوي عنده عُمّار المسجد الحرام - وهم عُمارهُ بالاعتكاف والطَّواف والصلاة، هذه هي عمارة مساجده المذكورة في القرآن وأهل سقاية الحاج لا يستوون، وأهل الجهاد في سبيل الله، وأخبر أنّ المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده؛ وأنهم هم الفائزون، وأنهم أهلُ البشارة بالرحمة والرضوان والجنات؛ فنفى التسوية بين المجاهدين، وعُمَّار المسجد الحرام مع أنواع العبادة، مع ثنائه على عُمّاره، بقوله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يَخْشَ إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}(التوبة: 18)؛ فهؤلاء هم عمار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند الله منهم». طريق الهجرتين (ص 623) .

التخلف عن الجهاد قدح في الإيمان

8- وقال سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وثِقَالا وجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون}( التوبة : 41- 45).

فقوله: {انفروا خفافاً وثقالاً}، قال أهل التفسير: كهولاً وشباباً، وأغنياء ومساكين، في العسر واليسر، مشاغيل وغير مشاغيل، نشاطاً وغير نشاط .  

وفي الآيات: ذمٌ للمنافقين المتقاعسين عن الجهاد بغير عذر، الذين يعتذرون بالأعذار الواهية، ويتخلَّفون عن الجهاد مع رسول الله[ وأصحابه، بأموالهم وأنفسهم، وأنَّ سبب ذلك هو عدم إيمانهم بالله -تعالى- والدار الآخرة، وحرصهم على الحياة الدنيا .

صفقة بين العبد وربه

9- ويقول -تعالى- في فضل المجاهدين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(التوبة: 111). 

     ففي هذه الآية الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- وهي الصفقة المعقودة بين الله وبين عباده المؤمنين، وبيان أنَّ المؤمن قد باع نفسه وماله على الله -عز وجل- وأنه سبحانه قد تقبّل هذا البيع الرابح ، وجعل ثمنه الجنة السرمدية، والله الميعاد، وهل توجد تجارة مثل التجارة المضمونة، التي تكون مع الخالق سبحانه الكريم الوهّاب ؟!

كل حركات المجاهدين عمل صالح

10- وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(التوبة: 120-121).

     ففي هاتين الآيتين: أنَّ كلَّ حركات المجاهدين في سبيل الله وسكناتهم، وجُوعهم وظمأهم وتعبهم، ونفقاتهم صَغُرت أم كبرت، وإغاظتهم الكفار بأيّ نوعٍ من أنواع الأذى المشروع الذي يُلحقونه بهم، كل ذلك يكتبه الله لهم عملاً صالحاً، وثواباً عظيماً ، ويجزيهم عليه أحسن ما كانوا يعملون؛ لأنّ المجاهدين في سبيل الله، لا يَرغبون بأنفسهم عن نفس نبيهم التي بذلها طيلة حياته في سبيل ربه، بل هم مقتدون بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك كان لهم هذا الفضل العظيم، الذي ذكره الله هاهنا، ليُغريهم بثوابه الشامل، وفضله العميم.  

التجارة الرابحة

11- وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(الصف: 10-13).

     هذه التجارة الرابحة مع الله -جل جلاله- هي التي يرجوها أولياء الله المجاهدون، لتُوصلهم إلى رضى ربّهم، وجنات الخلد، ورأس مالها: الإيمان بالله ورسوله، والجهاد والاجتهاد في سبيل الله، وربحها: غفران الله -تعالى- ودخول الجنات، بمساكنها وقصورها، وبساتينها وأنهارها، يُضاف إلى ذلك: نصر الله لأوليائه على أعدائه في الدنيا .

12- وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأمور}(الحج:40-41).

قال غير واحد من السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على ذلك: بأن السورة مدنية، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة، وغير واحد .

     وإنما شرع الله -تعالى- الجهاد في الوقت الأليق به; لأنهم لما كانوا بمكة، كان المشركون أكثر عدداً؛ فلو أمر المسلمين - وهم أقل من العُشر - بقتال الباقين لشق عليهم; ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا نيفاً وثمانين، قالوا: يا رسول الله، ألا نميل على أهل الوادي، يعنون أهل منى ليالي منى، فنقتلهم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني لم أُؤمر بهذا». فلما بغى المشركون، وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وهمَّوا بقتله، وشرَّدُوا أصحابه شَذَر مَذَر، فذهب منهم طائفةٌ إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة، فلما استقرّوا بالمدينة، ووافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره، وصارت لهم دار إسلام، ومعقلاً يلجؤون إليه، شَرع اللهُ جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك. (انظر ابن كثير).

     والجهاد في سبيل الله يظهر فضله، عندما تخبث الأرض بكفر الكافرين، وينتشر شرك المشركين، وردة المرتدين، وفساد المفسدين، فإذا المجاهدون هم الذين يطاردون الكفر والشرك والإلحاد، ويقضون على الردة، ويدفعون عن الحق، ويغلبون الباطل؛ فيقوم في الأرض دين الله -تعالى- وتعلو كلمته ودينه، ويُؤمر بالمعروف، ويُنهى عن المنكر؛ لذا قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض}، أي: لولا أنه يدفع عن قومٍ بقوم، ويكشف شر أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب والأحكام الشرعية، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف.

     لو أراد الباحث استقصاء فضائل الجهاد في القرآن الكريم بحسب شموله لكل أعمال المسلم وعباداته؛ لتعذَّر ذلك عليه؛ لأنّ كل أَمْر أَمَر الله به على هذا، هو من الجهاد الذي يسعى المسلم للقيام به، وكل نَهْي نهَى الله عنه، فتركه العبد لله، هو من الجهاد في سبيل الله، وهكذا كل صفة حميدة، وخُلق جميل حثَّ الشرع عليه؛ فالسعي للاتصاف به، هو من الجهاد في سبيل الله ، وكل صفة ذميمة ، نهى عنها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فالاجتهاد في البعد عنها، هو من الجهاد في سبيل الله.

     ومن ذلك: باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وسبيله، الذي لا فلاح للمسلمين إلا به، بل عاقبة المسلمين بدونه الخسران في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {كنتم خيرَ أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}(آل عمران: 110).

وقال تعالى : {ولْتَكُنْ منكم أمةٌ يَدْعون إلى الخير ويأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(آل عمران: 104).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك