رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 8 يونيو، 2016 0 تعليق

فضائل الجهاد في السنة النبوية(2)

الحكمة في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته: أنه يَشهد لصاحبه بفضله وجهاده، وعلى ظالمه بفعله وفائدة رائحته الطيبة

المجاهد إذا خرج في سبيل الله خَرْجة واحدة في أول النهار، أو خَرْجة واحدة في آخره، تكون خرجته الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها، فأي عملٍ يَعدل هذا العمل؟

 وردت أحاديث عدة في فضل الجهاد والمجاهدين، وما أعد الله -عز وجل- لهم في الدنيا والآخرة، وهي أكثر من أنْ تحصر، وأشهر من أنْ تذكر، وكذا التحذير من تركه والإعراض عنه، ومن هذه الأحاديث:

10- عن مسروق قال: سألنا عبد الله - هو ابن مسعود - عن هذه الآية: {ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون} آل عمران: 169. قال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحُهم في جَوف طيرٍ خُضر، لها قناديل معلّقة بالعرش، تَسرحُ من الجنة حيثُ شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربهم اطِّلاعةً، فقال: تشتهونَ شيئاً؟ قالوا: أيُّ شيءٍ نَشتهي؟ ونحن نسرحُ من الجنة حيث شئنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لنْ يُتركوا مِن أنْ يسألوا، قالوا: يا رب، نُريد أنْ تُردَّ أرواحَنا في أجسادنا، حتى نُقتلَ في سبيلك مرةً أخرى، فلما رأى أنْ ليس لهم حاجة، تُركوا». رواه مسلم (3/1502).

     قال ابن النحاس: الذي يظهر لي - والله أعلم - من الحكمة في جعل أرواحهم في هذه الأجساد: أنهم لما جاؤوا بأجسادهم الكثيفة لله تعالى، وبذلوها في حُبّه، وعرّضوها للآلام والمشاقّ الشديدة، وسمحوا بها للفناء، امتثالاً لأمر الله، وطلباً لمرضاته، عوّضهم عنها أجساداً لطيفة في دار النعيم الباقي، يأكلون بها ويشربون، ويَسرحون في الجنة حيث يشاؤون، ولما كان ألطف الحيوانات أجساماً الطير، وألطف الألوان الأخضر، وألطف الجمادات الشفافة الزجاج، كما قال تعالى: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} النور: 35. وإنْ كانت من ذهب كما في حديث ابن عباس فهو المفرح طبعاً وخاصية، وناهيك بذهب الجنة مفرحا، فلذلك - والله أعلم - جعل الله أرواح الشهداء في ألطف الأجساد، وهو الطير الملون بألطف الألوان، وهو الخضرة، يأوي إلى ألطف الجمادات، وهي القناديل المنورة والمُفرحة، في ظلِّ عرش اللطيف الرحيم، لتكمُل لها لذة النعيم، في جوار الربّ الكريم، فكيف يظن إنها محصورة؟! كلا والله، إنَّ هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليشمر المشمرون، وعليه فليجتهد المجاهدون. (مشارع الأشواق 2/731). 

11- وعن أنس رضي الله عنه قال: أُصيبَ حارثة يوم بدر وهو غلامٌ، فجاءت أُمُه إلى النبي صلى، فقالت: يا رسولَ الله، قد عرفتَ منزلةَ حارثة مني، فإنْ يكن في الجنة أصبرْ وأحتسب، وإنْ تكن الأخرى، ترَ ما أصنع، فقال: «ويحك أو هَبِلْتِ؟ أَوَ جنةٌ واحدةٌ هي؟ إنها جِنانٌ كثيرة، وإنه في جنَّة الفردوس». رواه البخاري (فتح- (6/25).

وقوله: «ويحك» هي كلمة رحمة، وقوله: «هبلت» بضم الهاء بعدها موحدة مكسورة، أي: ثكلت، وهو بوزنه. وقد تفتح الهاء فيقال: هبلته أمه تهبله، بتحريك الهاء، أي: ثكلته.

في هذا الحديث: الهمّة العالية عند هذا الصحابي الجليل رغم صغر السن، والحرص على المشاركة في الجهاد، فلم يمنعه صغره من أنْ يسابق إلى معالي الأمور، وهي الشهادة، وهي من أعلى مراتب الأولياء.

وفيه: تأثر أُمّه الشديد بفقده، وحبها الفطري والجبلي له، وقد كانت الأم صريحة في حديثها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرادت أنْ تجزعَ عليه، ولكنها صبرتْ واحتسبت ؛ لما علِمت ما أعدّ الله له من الكرامة، والخير الكثير في الجنة.

12- وعن أبي هريرة رضي الله عنه  عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ كَلْمُ يُكْلَمُه المسلمُ في سبيلِ الله، تكونُ يومَ القيامة كهيئتِها إذْ طُعِنتْ، تفجَّر دماً: اللونُ لونُ الدمِ، والعَرْفُ عَرف المِسك». رواه البخاري (فتح 1-/344) ومسلم (3/1496).

قوله: «والعَرف» أي: الرائحة، والحكمة في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته: أنه يَشهد لصاحبه بفضله وجهاده، وعلى ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة: أن تنتشر في أهل الموقف، إظهاراً لفضيلته أيضا، ومن ثَم لم يُشرع غسل الشهيد في المعركة.

13- وعن جابررضي الله عنه قال: لما قُتل أبي جعلت أبكي، وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهونني، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَه، وقال النبيصلى الله عليه وسلم : «لا تَبكِه، مازالتِ الملائكةُ تُظلُّه بأجنِحتها، حتى رُفِع»   رواه البخاري (فتح - 7/374).

وفي رواية لمسلم: قال: جيء بأبي يوم أحدٍ مُجدَّعا، فوضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .. فذكر نحوه.

وقوله: «تبكه، أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تُظلّه» معناه: سواء بكيت عليه أم لا فما زالت الملائكة تُظله، أي: تظلل عليه بأجنحتها، أي: فقد حصل له من الكرامة هذا وغيره، فلا ينبغي البكاء على مثل هذا، وفي هذا تسليةٌ له عن مصابه. 

14- وعن أنس -رضي الله عنه - قال: بَعث النبي -صلى الله عليه وسلم - أقواماً من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإنْ أمَّنُوني حتى أبلغهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وإلا كنتم مني قريباً، فتقدَّم فأمَّنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذْ أَوْمؤوا إلى رجلٍ منهم، فطَعَنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فُزْتُ وربِّ الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم، إلا رجل أعرج صعد الجبل، قال همام – أحد رجال السند – فأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم -رضي الله عنهم- وأرضاهم، فكُنا نقرأ: (أنْ بلِّغوا قومنا أنْ قد لقينا ربَّنا فرضيَ عنَّا وأرضانا) ثم نُسخ بعد. فدعا عليهم أربعين صباحاً، على رَعْل وذَكْوان وبني لحيان وبني عُصَيّة، الذين عَصُوا الله ورسوله.

رواه البخاري (فتح الباري - 6/18) ومسلم (3/1511).

ما يستفاد من الحديث:

- الأول: بيان فضيلة الشهداء عند الله تعالى , وأنهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون، وأنَّ الله يرضى عنهم ويرضيهم، ورضا الله -تعالى- هو غاية ما يسعى إليه المؤمنون.

- الثاني: جواز أنْ يقول الرجل في المعركة حين يشعر بالقتل والموت: فزتُ ورب الكعبة، أي: فزت بالشهادة والجنة.

- الثالث: جواز الدعاء على أهل الغدر والخيانة، والطغيان والفجور بالهلاك والدمار، وجواز ذكر أسمائهم وقبائلهم إذا لم يترتب عليه فتنة، فقد صرح[ في دعائه برعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية.

- الرابع: فيه ذكر وجود النسخ في القرآن الكريم، وهو مما اتفق عليه أهل العلم، وهو نوعان: 1- نسخ الحُكم.

  2- نسخ التلاوة.

وهنا قد نسخت تلاوة آية: (بلِّغوا عنَّا قومَنا , أنْ قدْ لقينا ربَّنا , فرضيَ علينا وأرضانا) وبقي حُكمها.

15- وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال النبيصلى الله عليه وسلم : «رأيتُ الليلةَ رجلين أتياني، فصَعَدا بي الشجرة، وأدْخَلاني دَاراً هي أحْسنُ وأفضلُ، لم أرَ قطُّ أحسنَ منها، قال: أمَّا هذه الدار، فدارُ الشُّهداء». رواه البخاري (فتح الباري - 6/11).

فوصف دار الشهداء ومكانهم في الجنة، بأنها هي أحْسنُ وأفضلُ ما في الجنة، وأنه لم يرَ قطُّ أحسنَ منها، وهذا دليل على فضل الشهادة في سبيل الله.

16- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَغدوةٌ في سبيل الله أو رَوحة، خيرٌ من الدنيا وما فيها».

وفي رواية من حديث أبي هريرة: «خيرٌ ممَّا تطلعُ عليه الشمسُ وتغرب». رواه البخاري (فتح -6/13)، ورقم (2793) أيضاً، ومسلم (3/1499).

فالمجاهد إذا خرج في سبيل الله خَرْجة واحدة في أول النهار، أو خَرْجة واحدة في آخره، تكون خرجته الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها، فأي عملٍ يَعدل هذا العمل؟ وأي فضل يساوي هذا الفضل الكبير؟!

17- وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه : أنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباطُ يومٍ في سبيلِ الله، خيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها، وموضعُ سَوْط أحدِكم من الجنة، خيرٌ من الدُّنيا وما عليها، والرَّوْحة يَروحها العبدُ في سبيل الله والغدوة، خيرٌ من الدنيا وما عليها». رواه البخاري (فتح - 6/85).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك