رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 17 يناير، 2018 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف- من أدلة سد الذرائع: النهي عن إقامة الحدود بدار الحرب والكف عن قتل المنافقين

تكلمنا في الحلقة الماضية عن الأدلة المختلف فيها، وذكرنا منها العرف، والاستحسان، وسد الذرائع، وقلنا: إن المقصود منها في اصطلاح الفقهاء والأصوليين ما كان ظاهره الإباحة، لكنه يفضي ويؤول إلى المفسدة والوقوع في الحرام، وهذه القاعدة لها شواهد، أكثر من أن تحصى نذكر منها ما يلي:

     قوله -سبحانه وتعالى-: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم}(الأنعام: 108)؛ فحرّم -تعالى- سبَّ الآلهة -مع أنه عبادة- لكونه ذريعة إلى سبّهم لله -سبحانه وتعالى-؛ لأن مصلحة تركهم سب الله -سبحانه- راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم.

     وروى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه»، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال: «نعم ، يسبُّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه». متفق عليه .

     ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل والديه». قالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه»؛ فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل ساباً لاعنا لأبويه،إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام، لكن قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر، لكونه شتما لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره .

الكف عن قتل المنافقين

     ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفُّ عن قتل المنافقين، مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إنَّ محمدا يقتل أصحابه؛ فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام؛ ممن دخل فيه، ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .

تحريم الخمر

     كذلك فإن أن الله -سبحانه- حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب، ثم إنه حرم قليل الخمر، وحرم اقتناءها للتخليل، وجعلها نجسة؛ لئلا تقضي إباحته مقاربتها بوجهٍ من الوجوه لا لإتلافها على شاربها، ثم إنه قد نهى عن الخليطين، وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانْتِباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها، حسماً لمادة ذلك، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف، وبين أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة؛ فقال: لو رخّصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه، يعني صلى الله عليه وسلم: أنّ النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا .

تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية

ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، والسفر بها ولو في مصلحة دينية، حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير .

النهي عن بناء المساجد على القبور

     ومنها أنه نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها، وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا، وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصد، بل قصد خلافه سدَّا للذريعة.

النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس

     أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود الكفار للشمس؛ ففي ذلك تشبه بهم مشابهة الشيء لغيره، ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه؛ فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها .

النهي عن التشبه بأهل الكتاب

     ومنها أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة: مثل قوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»، «وإن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم»، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع»، وقال فيما رواه الترمذي: «ليس منا من تشبه بغيرنا»، وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم».

وما ذلك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة  يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض.

النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها

     ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، وقال: «إنَّكم إذا فعلتُم ذلك قَطَعتم أرْحامكم»، حتى لو رضيت المرأةُ أنْ تُنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة، لما طلبتْ من النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يتزوج أختها دُرّة لم يجز ذلك، وإنْ زعمتا أنهما لا تتباغضان بذلك؛ لأنّ الطباع تتغير؛ فيكون ذريعة إلى فعل المحرّم من القطيعة .

تحريم نكاح أكثر من أربع

     وكذلك حرّم نكاح أكثر من أربع؛ لأنَّ الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإنْ زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام، من مال اليتامى وغيرهن، وقد بيّن العلة الأولى بقوله -تعالى-: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا}(النساء: 3). وهذا نصٌ في اعتبار الذريعة .

تحريم خطبة المعتدة

ومن ذلك أن الله -سبحانه- حرم خِطْبة المعتدة صريحاً، حتى حرّم ذلك في عدة الوفاة، وإنْ كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة، فإنَّ إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك.

اشتراط شروط للنكاح

     كذلك فإنَّ الله -سبحانه- اشْترط للنكاح شروطاً زائدة على حقيقة العقد، تقطع عنه شُبهة بعض أنواع السفاح به، مثل: اشتراط إعلانه، إما بالشهادة ، أو ترك الكتمان، أو بهما، ومثل اشتراط الولي فيه، ومنع المرأة أنْ تليه، وندب إلى إظْهاره حتى استحب فيه الدُّف والصوت والوليمة، وكان أصل ذلك في قوله -تعالى-: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}، وقوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}، وإنما ذلك؛ لأنّ في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش .

     ثم إنه أكَّد ذلك بأنْ جعل للنكاح حَرِيما من العدة، يزيد على مقدار الاسْتبراء، وأثبت له أحكاماً من المُصاهرة وحُرمتها، ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع ، فعُلِم أنّ الشارع جعله سبباً وصلة بين الناس بمنزلة الرحم، كما جعل بينهما في قوله -تعالى-: {نَسَبًا وَصِهْرًا}(الفرقان: 54).

وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح، وتبين أنّ نكاح المحلّل بالسفاح أشبه منه بالنكاح؛ حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه.

النهي عن الجمع يبن سلف وبيع

     ومن الشواهد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أنْ يَجمع الرجل بين سَلَفٍ وبيع، وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صحّ؛ وإنما ذاك لأنّ اقتران أحدهما بالآخر، ذريعة إلى أنْ يقرضه ألفا، ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى؛ فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا؛ فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكلّ طريق .

     وقد احتج بعض المانعين لمسألة «مُدّ عَجوة» بأنْ قال: إنّ من جوّزها يجوز أنْ يبيع الرجل ديناراً في منديل بألف وخمسمائة مفردة، قال: وهذا ذريعة إلى الربا، ثم قال : يجوز أنْ يقرضه ألفاً ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهذا هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أقرب الذرائع إلى الربا، ويلزم مَنْ لم يسد الذرائع أنْ يُخالف النصوص ويجيز ذلك؛ فكيف يترك أمراً ويرتكب نظيره من كل وجه؟

منع المقرض قبول الهدية

     ومنها أنه النبي صلى الله عليه وسلم منع المُقْرض قبول هدية المقترض؛ إلا أنْ يَحسبها له، أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض، وما ذاك إلا لئلا تُتخذ ذريعة إلى تأخير الدَّين لأجل الهدية؛ فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أنْ أخذ فضلاً، وكذلك ما ذُكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية، ومنع الشافع قبول الهدية؛ فإنّ فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية .

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك