رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 28 يناير، 2018 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف- من أدلة سد الذرائع: عدم الجهر بالقرآن في مكة والأمر بالعفو والصفح وعدم الانتصار باليد

 تكلمنا في الحلقة الماضية عن الشواهد الدالة على مسألة سد الذرائع، وذكرنا منها: النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، والنهي عن التشبه بأهل الكتاب، والنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، وتحريم نكاح أكثر من أربع، تحريم خطبة المعتدة، والنهي عن الجمع يبن سلف وبيع، ومنع المقرض قبول الهدية، وكذلك النهي عن إقامة الحدود بدار الحرب، واليوم نكمل هذه الشواهد.

النهي عن تقدّم رمضان بصوم يومٍ أو يومين

     ومن الشواهد أيضًا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تقدّم رمضان بصوم يومٍ أو يومين، إلا أنْ يكون صوماً كان يصومه أحدُكم فليصمه، ونهى عن صوم يوم الشَّك، إما مع كون طلوع الهلال مرجوحاً، وهو حال الصّحو، وإما سواء كان راجحاً أم مرجوحاً أم مساوياً على ما فيه من الخلاف المشهور ، وما ذاك إلا لئلا يُتخذ ذريعة إلى أنْ يُلحق بالفرض ما ليس منه .

      وكذلك حرّم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم، وهو يوم العيد، وعلل بأنه: يوم فطركم من صومكم، تمييزاً لوقت العبادة من غيره، لئلا يُفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور، وتأخير السُّحور، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها، وعن غيرها؛ فكره للإمام أنْ يتطوع في مكانه، وأن يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التمييز، ومن جملة فوائد ذلك: سدّ الباب الذي قد يُفضي إلى الزيادة في الفرائض.

منع المسلمين من قول راعنا

      ومنها أنه -سبحانه- مَنَع المسلمين من أنْ يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم : «رَاعِنا» مع قصدهم الصالح، لئلا تتخذه اليهود ذريعةً إلى سبِّه صلى الله عليه وسلم ، ولئلا يتشبّه المسلم بهم، ولئلا يُخاطب بلفظٍ يحتمل معنى فاسداً.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالظاهر

      ومن ذلك أنّ الله -سبحانه- أَمَر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يَحْكم بالظاهر، مع إمكان أنْ يوحى إليه بالباطن، وأمره أنْ يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق، وألا يقبل شهادة ظِنِّين في قرابةٍ وإنْ وَثِق بتقواه حتى لم يجز للحاكم أنْ يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء، لينضبط طريق الحكم، فإنَّ التمييز بين الخُصوم والشهود، يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة، وإنْ أفضت في آحاد الصُّور إلى الحُكم بغير الحق ، فإنَّ فساد ذلك قليل إذا لم يتعمّد في جنب فساد الحُكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خَصم أو غير ذلك، وإنْ كان قد يقع بهذا صلاح قليل، مغمور بفساد كثير .

منع النبي صلى الله عليه وسلم من الجهر بالقرآن بمكة

      ومن ذلك أنَّ الله -سبحانه- منع رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا كان بمكة من الجَهر بالقرآن؛ حيث كان المشركون يَسمعونه فيسبّون القرآن، ومَنْ أنزله، ومَن جاء به!

إقامة الحدود

      ومن الشواهد القوية أن الله -سبحانه- أوْجب إقامة الحدود، سداً للتذرّع إلى المعاصي إذا لم يكنْ عليها زاجر، وإنْ كانت العقوبات من جنس الشر، ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع -أي تطلبها - كالزنا والشرب والسرقة والقذف، دون أكلِ الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتَّعْزير، ثم إنه أوجبَ على السُّلطان إقامة الحدود إذا رُفعتْ إليه الجريمة، وإنْ تاب العاصي عند ذلك، وإنْ غَلَب على ظنه أنه لا يعود إليها، لئلا يُفضي ترك الحدِّ بهذا السبب إلى تعطيل الحُدود، مع العلم بأنَّ التائبَ مِنْ الذنب كمن لا ذنب له .

الاجتماع على إمام واحد

     ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم سَنَّ الاجتماع على إمامٍ واحد في الإمامة الكبرى، وفي الجُمعة والعيدين والاستسقاء، وفي صلاة الخوف وغير ذلك، مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية؛ لما في التفريق من خوفِ تفريق القلوب، وتشتّت الهِمم، ثم إنّ محافظة الشارع على قاعدة الاعْتصام بالجَماعة، وصلاح ذات البين، وزجره عما قد يُفضي إلى ضدّ ذلك في  التصرفات جميعها، لا يكاد ينضبط، وكل ذلك شُرع لوسائل الألفة، وهي مِن الأفعال، وزجراً عن ذرائع الفرقة، وهي من الأفعال أيضا .

كراهة إفراد رجب بصوم

     ومن الشواهد أن السُّنّة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار، وإنْ كان الصوم نفسه عملاً صالحاً، لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار، وتعظيم الشيء تعظيماً غير مشروع.

شروط أهل الذمة

     ومنها أن الشروط المضروبة على أهل الذِّمة تضمَّنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها، لئلا تُفضي مشابهتهم إلى أنْ يُعامل الكفار معاملة المسلم.

النهي عن الأكل من الهدي المعطوب

     ومن ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أرسل معه بِهَديه إذا عَطَب شيء منه دون المحل أنْ ينحره ويصبغ نعله الذي قلَّده بدمه، ويُخلي بينه وبين الناس، ونهاه أنْ يأكل منه هو، أو أحدٌ من أهل رفقته .

- قالوا: وسبب ذلك: أنه إذا جاز له أنْ يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل؛ فربما دعته نفسه إلى أنْ يقصر في علفها وحفظها؛ مما يؤذيها لحصول غرضه بعطبها دون المحل، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصوله غرضه في عطبها كان ذلك أدْعى لإبلاغها المحل، وأحْسَم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع.

أمر الصبيان بالاستئذان

     ومن ذلك قوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات}(النور: 58)؛ فأمر -تعالى- مماليك المؤمنين، ومَن لم يبلغ منهم الحُلُم: أنْ يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هَجْما بغير استئذان فيها، ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها، وإنْ أمكن في تركه هذه المفسدة، لندورها وقلة الإفضاء إليها؛ فجعلت كالمقدمة .

النهي عن البيع وقت نداء الجمعة

     ومنها أنه -تعالى- نهى عن البيع وقتَ نداء الجمعة؛ فقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسْعوا إلى ذكر الله وذرُوا البيع}(الجمعة : 9)، لئلا يُتخذ البيع وقت الصلاة ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.

النهي عن الانتصار باليد في مكة

     وأخيرا من الشواهد على هذه القاعدة أنه -تعالى- نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح، لئلا يكون انتصارهم ذريعةً إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغْضاء واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم، راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة .

      والكلام في سدَّ الذرائع واسع لا يكاد ينحصر، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل، إلا ما هو متفق عليه، أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول وشائع عنهم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك