رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 19 فبراير، 2018 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف – عدم العلم بالدليل، ليس علما بالعدم؟

كثير من المتناظرين قد يجعل عمدته في نفي وجود أمرٍ ما، عدمُ علمه بالدليل على وجوده! وهذا غيرُ صحيح؛ لأن الأصل أنَّ عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم، وعدم الوجود ليس نفياً للوجود، فكما أنَّ الإثبات يحتاج إلى دليل, فكذلك النفي يحتاج إلى دليل، وإلا فما لم يُعلم وجوده بدليلٍ معين، قد يكون معلوماً بأدلة أخرى، فمثلاً: عدم وجود الدليل العقلي على وجود أمر ما، لا يعني عدم وجوده؛ لأنه قد يكون ثابتاً بالدليل السمعي النَّقلي، أو غيره، فجنس الدليل يجب فيه الطرد، لا العكس، فيلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه، ولا ينعكس.

فالأقسام ثلاثة: ما عُلم ثبوته أُثبت؛ وما عُلم انتفاؤه نُفي؛ وما لم يعلم نفيه ولا إثباته؛ سكت عنه.

هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته، ومَنْ لم يُثبت ما أثبته إلا بالألفاظ الشرعية التي أثبتها، وإذا تكلم بغيرها استفسر واستفصل؛ فإنْ وافق المعنى الذي أثبته الشرع أثبته باللفظ الشرعي؛ فقد اعتصم بالشرع لفظاً ومعنى، وهذه سبيل من اعتصم بالعروة الوثقى.

لكن ينبغي أنْ تعرف الأدلة الشرعية إسنادا ومتنا؛ فالقرآن معلوم ثبوت ألفاظه، فينبغي أنْ يُعرف وجوه دلالته، والسنة ينبغي معرفة ما ثبت منها، وما عُلم أنه غير ثابت أو كذب. انظر مجموع الفتاوى (16/ 432) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

الطَّرد لا العكس

إذاً فالدليل: يجب فيه الطَّرد لا العكس، بمعنى أنه يلزم مِن وجوده الوجود، ولا يلزم من عدمه العدم، أي: عدم المدلول عليه، كما قال -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} يونس: 39، فهذا نَعْيٌ على كل من كذّب بما قصر عنه علمه.

     فمن نفى كثيراً من الغيبيات كالصفات الإلهية، والقدر، والملائكة، والجن، وأحوال البرزخ، والمعاد، لعدم قيام دليل الحس والمشاهدة أو دليل العقل – كما يزعم – كان غالطاً؛ لأنه أخبر عن نفسه، ولا يمنع أنْ يكون غيره قد قام عنده دليل العقل، أو دليل السمع والنقل، أو دليل المشاهدة، كما وقع ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم في مشاهدة الجن والملائكة، وأحوال البرزخ والمعاد.

     وقد رد علماء المسلمين على النصارى دعواهم إلهية عيسى -عليه السلام- لظهور الخوارق على يديه، بأنّ عدم ظهور هذه الخوارق في حق غيره؛ لا يلزم منه عدم إلهية ذلك الغير، بل غاية ما هنالك أنه لم يوجد هذا الدليل المعين، وعليه، فيجوز – كما هو لازم قولهم – حلول الله -تعالى- في كل مخلوق من مخلوقاته؛ إذْ لا دليل على اختصاص عيسى -عليه السلام- بذلك؛ لأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول.

عدم العلم بالشيء ليس علما بالعدم

     فنقول: إن عدم العلم بالشيء ليس علما بالعدم، فإذا كان بعض الناس لا يعلمون حجة قاطعة دامغة، أو آية ساطعة، على كون الإسلام هو الدين الحق المبين، فهناك آخرون عندهم حجج متكاثرة، وأدلة متواترة على هذه الحقيقة الظاهرة، ولا يخفى أنَّ ذلك يرجع إلى اختلاف الناس في علومهم ومداركهم، ومشاربهم وغاياتهم؛ ولذلك نقول: إنَّ ظهور الحجة ووضوحها أمرٌ نسبي، وكذلك قبول الشبهات والتأثر بها، يختلف الناس في ذلك اختلافا بينا، حتى وُجد فيهم مَنْ يُنكر الحق الواضح الجلي، ومَن يبني دينه على الوهم والظن والخرص، ومن يعتقد أن الحقيقة ذاتها وهم وشك! بل إنّ منهم مَنْ ينكر الواقع المحسوس المشاهد ويجادل فيه، كالسفسطائيين الذين يشككون في الحقائق والحسيات والمشاهدات.

     ويستثنى من هذه القاعدة: ما إذا كان وجود المدلول مستلزماً لوجود الدليل، وقد عُلم عدم الدليل، فيقع العلم بعدم المدلول المستلزم لدليله؛ لأنّ عدم اللازم دليل على عدم الملزوم، مثاله: قد ثبت توافر الدواعي على نقل كتاب الله -تعالى- ودينه؛ فإنه لا يجوز على الأمة جميعاً كتمان ما يحتاج الناس إلى نقله، فلما لم يُنقل ما يحتاجون إليه ضرورة في أمر دينهم نقلاً عاماً، علمنا يقيناً عدم ذلك، نحو: سورة زائدة على ما بأيدينا من كتاب الله عز وجل، أو وجود صلاة سادسة، ونحو ذلك.

فعدم النقل إذاً: دليلٌ على العدم؛ لأنَّ الشرع محفوظ، فلا يمكن أنْ يشرع الله -تعالى- شيئًا إلا ويحفظ، وينقل للأمة، وإلا لزم أنْ يكون شيء من الشرع قد ضاع! وهذا غير جائز ولا يكون أبداً، قال -تعالى-: {إنّا نحنُ نزّلنا الذّكرَ وإنَّا له لحَافظون} الحجر: 9.

وجود الخلاف في الشيء

     وأيضاً: فإنّ وجود الخلاف في الشيء؛ لا يعني غياب الحجة والبيان على كل حال، وظهور الجدال من بعض الناس والإعراض، لا يعني ضعف الدليل والبرهان، فحسبنا إثبات الحق واعتقاده وإقامة برهانه، ولا يضرنا بعد ذلك مَن ينكره ويجادل فيه؛ فإنَّ هذا أَمرٌ لا ينقطع، ولا تزال سُنَّة المدافعة بين الحق والباطل قائمة، ما بقيت الحياة على الأرض، ليميز الله الخبيث من الطيب، قال -تعالى- عن وقعة بدر بين المسلمين والكفار: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال: 42.

     قال السعدي في الآية: ولَكِنْ الله جمعكم على هذه الحال {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} أي: مقدّرا في الأزل، لا بد من وقوعه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} أي: ليكون حُجة وبيّنة للمعاند، فيختار الكفر على بصيرةٍ وجزمٍ ببطلانه، فلا يبقى له عذرٌ عند الله: {وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} أي: يزداد المؤمن بصيرة ويقيناً، بما أرى الله الطائفتين من أدلة الحق وبراهينه، ما هو تذكرة لأولي الألباب اهـ.

زوال الخلاف

     فالمقصود أنّ زوال الخلاف ليس دائماً يكون بمجرد وضوح الحُجة، واتضاح المحجَّة، بل كثيرٌ من الخلاف قديماً وحديثاً قائم على غير ذلك؛ لأنَّ من الناس مَن يعرف الحقّ ثم يرده ويخاصم فيه، وتظهر له دلائله وبراهينه ثم يدفعها ويتعامى عنها؛ اتباعاً لهواه، وإيثاراً للدنيا على الآخرة والعياذ بالله، ومثال ذلك ما قصَّه الله -تعالى- عن نبيه وخليله إبراهيم -عليه السلام- في محاجته للنمرود، ومحاجته لقومه، ففي الأول يقول الله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة: 258.

- وفي محاجته لقومه يقول -سبحانه-: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} الأنبياء: 63-68.

فلم ينقادوا للحجة الباهرة مع وضوحها كرابعة الشمس في وسط النهار، وإنما ركبوا رؤوسهم وكابروا وعاندوا.

فالخلاف لا يزال قائماً ما وُجد للباطل أتباع، يُؤثرونه على الحق، ولا يريدون عنه بديلاً، ويكرهون الحق وأتباعه، فأمثال هؤلاء كيف يهديهم الله تعالى، ويشرح للحق صدورهم؟! قال -تعالى-: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} آل عمران: 86.

وقال -سبحانه-: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} الأعراف: 146.

اختلاف أهل الحق وأهل الباطل

فالخلاصة: أن اختلاف أهل الحق وأهل الباطل لن يزول، سواء أقامت الحُجة عليهم أم لم تقم، كما قال -تعالى-: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} هود: 118- 119.

     قال السعدي: يخبر -تعالى- أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدةً، على الدين الإسلامي؛ فإنَّ مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضتْ حكمته، أن يظلوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره: إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي وأما مَن عداهم، فهم مخذولون مَوْكولون إلى أنفسهم، وقوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقَّت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدله وحكمته، وليظهر ما كمُن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد، والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء اهـ.

- وقد أنزل الله بالحق كتبه، وأرسل به رسله، حتى تقوم بذلك الحجة على خلقه، ولا يبقى لهم عُذر يوم يلقوه، كما قال -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} النساء: 165، وقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} النساء: 174، وقال -تبارك وتعالى-: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} الأنعام: 149.

     قال الزجاج: فحجته البالغة تَبْيينهُ أنَّهُ الواحدُ، وإرْسالُه الأنبياءَ بالحجج التي يعجز عنها المخلوقون اهـ. معاني القرآن وإعرابه، وقال السعدي في تفسيره: الحجة لله البالغة، التي لم تُبق لأحدٍ عذراً، التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون، والكتب الإلهية، والآثار النبوية، والعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، والأخلاق القويمة، فعُلم بذلك أنّ كلَّ ما خالف هذه الأدلة القاطعة باطل؛ لأنَّ نقيض الحق، لا يكون إلا باطلا. اهـ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك